طالب عبد العزيز
لم يشعل الفتيةُ الناصريون(من الناصرية) النار بالاطارات البارحة، فنامت المدينة باردةً، وبلا دخان. كان النهرُ الفراتُ قد تمدد على طولها البهي حتى الصباح، ومن نافذة بهو فندق الزيتون رحتُ أطلُّ على الجسر، جسر الزيتون أيضاً، لا جسر الحضارات، فهذا بعيد، الى حدٍّ ما عن مكان إقامتي.
قبل الظهر، كانت مضيفتي الألمانية قد سألتني، ما إذا كانت غرفتي تطلُّ على الفرات ام لا؟ فأجبتها بأنَّ الغرفة بلا نافذة، فأنكرتْ على إدارة الفندق ذلك، ثم همَّ عاملُهم فيه بأخذ حقيبتي الى غرفة، جميلة، نافذتها بكامل إطلالتها على النهر، ومن هناك كتبتُ: تدفقْ أيها الفرات، لم يئن موعدُ غرقي بعد.
في الناصرية يشعر المرؤ بعظمة الثورة، فالمدينة ومنذ شهور بلا محافظ، ولا حكومة محلية، لكنَّ زائرها لا يلحظ توقفاً في انسيابية الشارع، فاشارات المرور تعمل، وحركة الناس كعهدها في سائر الأيام، والطلاب يمتحنون في مدارسهم، والمدينة خلو تماماً من مكاتب الأحزاب الحاكمة، فقد أُحْرقتْ جميعاً، والشباب الغاضب لا يجد في وجودها إلا صورةً مثلى للفساد، وهدر المال، فلا ضرورة وأهمية لها، وسوى من المطالبة بدماء الشباب، الذين سقطوا إثر ذلك، لا يجد الناصريون مطلباً يتقدم، فالثورة هي إنصاف المظلوم، ورد الحقوق، لا العبث بالدماء. هكذا، وجدتها، وبدت الحياة لي طبيعية.
لا أريد أن أرسم صورة مثاليةً، فالحديث بين النخب يجري على أنَّ التظاهرات لم تعدْ كما كانت، فقد بيعت بعضُ مظاهرها، واستولى البعضُ الآخر على مكاسبها، لكنني وجدت إنصياع حكومة بغداد الى مطالب الثوار منجزاً لها، إذ، لا يمكن الحديث عن محافظ فيها خارج إرادة الثورة، وهذا، ما جعل من الناصرية رائدةً، تتطلع لها جماهيرُ مدن النجف وكربلاء والمثنى وغيرها.
في طريقنا الى مبنى المتحف، أشار دليلنا الى مبنى الحكومة الجديد، الذي بُني على هيئة زقّورة أور، والذي لم يكمل، ولن يكمل، بحسب قوله، ذلك، لأنَّ الفساد طاله أيضاً، مع ما طال من مرافق أخرى، فتذكرتُ مبنى الحكومة المحلية في البصرة، الذي لم يكمل أيضاً، وقد شرعتْ ببنائه منذ أكثر من عشر سنوات، وهنا، نابزتُ صاحب فندق الزيتون، المعجب بما أنجز من شوارع وتقاطعات في البصرة، قائلاً: ألا ترى يا صاحبي، بأنَّ الأحزاب الحاكمة في الناصرية والبصرة وبغداد هي من رحم فاسد واحد؟ وهكذا، تمكنت صورة الزقّورة الناقصة، والمتوقفة عند المبنى الحكومي من تشويه صورة الزقورة، الحقيقية بصيرورتها الألفية الخالدة هناك، حيث شيّد الاجداد السومريون أول حضارة في التاريخ.
كان مدير المتحف يحدثنا عن مقتنيات القاعات، ويقف بيننا سعيداً بانتسابه الى حضارة عمرها ثمانية آلاف سنة، ووجدته أكثرنا سروراً وهو يشير الى مباخر حجرية، تستعمل في البيوت والمعابد، وأواني لتقديم الفاكهة، ومكاحل نسائية، ودمى ولقى مصنوعة من الحجر الصوّان والرخام المصقول بعناية، ويشير الى أدوات للفلاحة، ومثلها للصيد، وثمة العجلة التي قلبت معادلة الكون.. وراح يتنقل بنا من قاعة الى أخرى، بحماسة لم أشهدها عند دليل سياحي في العالم، يالله، كان باحثاً وعالماً آثارياً بحق، ينتسب بروحه ووجدانه الى مقتنيات متحفه.
الحقَّ أقول: في الناصرية يشعر المرؤ بجدوى كونه عراقياً، ويلمس عن قرب المعاني العظيمة، التي ظلَّ يُنشدها الثائرون. هذه الأجساد الرافدينية، المتشبثة بالماء والطين والقصب لا يمكن لها أن تُقهر بالعيلامية والساسانية أوالبهلوية الجديدة.