ستار كاووش
بينما كنت جالساً وسط معرضي الشخصي (الباص الأحمر) الذي أقمته في قاعة الرشيد ببغداد نهاية الثمانينيات، أَطَلَّتْ امرأة جميلة بإبتسامة ودودة وعينين مشرقتين وهي تقدم لي نفسها (أنا الصحفية هدى حمودة، جئتُ لأعمل معك حواراً حول المعرض لمجلة الأفق).
فتساءلتُ مع نفسي: حوار معي لهذه المجلة الجميلة التي توزع في كل الوطن العربي؟ أنا الذي مازلتُ طالباً في أكاديمية الفنون الجميلة! وحين لاحَظَتْ دهشتي قالت بهدوء (أعمالك فيها شيء جديد، اضافة الى أن لك حضوراً جميلاً بين الفنانين). هكذا تعرفتُ في تلك الظهيرة البغدادية على واحدة من ألمع الصحفيات، وفيما بعد فوجئتُ بالحوار وقد احتل أربع صفحات ملونة تُصاحبه صور أغلب لوحات المعرض، وقت كان يدير القسم الثقافي للمجلة الشاعر المثقف راسم المدهون، الذي تعرفتُ عليه فيما بعد من خلال هدى ذاتها، عند زيارته بغداد، تحدثنا وقتها كما لو كنا نعرف بعضنا منذ زمن، لينظر اليَّ راسم بعدها وكأنه يستعيد شيئاً، ويقول (رغم أني لا أشاركك بعض آرائك التي ذكرتها في الحوار، لكن سعادتي حقيقية بنشره كاملاً) لتتوطد علاقتي بهذا الشاعر والانسان الجميل.
سرتُ من معرض لآخر، وهدى الصديقة المخلصة كانت تتابع هذه المعارض وتَطَّلِع على لوحاتي الجديدة وتشير اليَّ هنا وهناك بكل كرم وايمان عميق بموهبتي، وتكتب الكثير عني وعن أعمالي، ليزداد توهج لوحاتي رغم أني كنت في بداية الطريق. وغالباً ما كنا نلتقي صحبة الكثير من الأصدقاء ليس في معارض الرسم فقط، بل في العروض المسرحية أيضاً والمهرجانات الكثيرة التي كانت تقام في بغداد، وحين كنا نحتسي القهوة مع بعض الاصدقاء في تلك اللقاءات، كانت تفهم بفطنة الصديقة النادرة ان نقودي قليلة ولا يمكنني تحمل دفع الحساب فتبادرني مازحة بلكنتها الفلسطينية المحببة ( يازَلَمه... أنت مازلت طالباً في الأكاديمية. رغم أن موهبتك كبيرة، لكن ربما تكون نقودك اليوم قليلة، فدعني أتكفل بالأمر) لتدفع هي الحساب في النهاية. وحتى حين بدأت اللقاءات الجميلة تقل بين الاصدقاء بسبب ظروف البلد بداية التسعينيات جعلت هدى بيتها صالوناً ثقافياً لنا نحن أصدقائها، حيث يحضر شعراء وفنانون ومثقفون، وتجري حوارات لا تنتهي عن الابداع والجمال في لقاءات ثقافية تتكرر كل أسبوع، وكانت هدى بطبيعة الحال نجمة الحضور والشمس التي تضيء الصداقات وصاحبة الكاريزما المحببة للجميع.
عند خروجي من العراق سنة ١٩٩٤ لم يكن معي سوى خمسة دنانير أردنية أعطاها لي صديقي القاص الراحل عبد الستار ناصر، حيث كان عائداً تواً من الأردن، إضافة الى عشرين جنيهاً مصرياً حصلت عليها من صديقي الرسام عبد الرحيم ياسر الذي كان راجعاً بدوره من أحد معارض الكاريكاتير في مصر، لكني كنتُ أحشر بين نقود هذين الصديقين، رسالة صغيرة أعطتها لي هدى حمودة قبل سفري بيوم واحد، كتوصية لاحدى الصحفيات في الاردن كي تقدم لي المساعدة ان احتجت لذلك. ومع أني ذهبت الى المجلة التي تعمل فيها تلك الصحفية ولم أجدها في ذلك اليوم، ثم نسيت الموضوع فيما بعد، لكني لم ولن أنسى موقف هدى، هذه الصديقة التي حَمَلتُ صداقتها وفضلها معي داخل العراق وحتى خارج الحدود حين إلتمع اسمها أمامي في أول يوم لي في عمان، وأنا أقرأ الخبر الذي نَشَرَتْهُ عني في جريدة الأهالي، والذي يبدو انها قد ارسلته قبل قراري النهائي بالسفر، حيث كان الخبر يشير الى حصولي على جائزة الدولة للأبداع في تلك السنة. إبتسمتُ خالي الجيوب ومليء بالامتنان هناك في عمان وفكرتُ بالجائرة التي تركتها خلفي ولم أستلمها، مثلما تركت البلد.
لم تتوانَ هدى حمودة يوماً في مدِّ يد المساعدة، ولم تتردد في قول كلمة حق جميلة ونابعة من احساس بالمسؤولية والجمال وروح المحبة. متحدثة لبقة ومثقفة كبيرة، وكاتبة وصحفية باهرة لها تأثير بالغ على كل من عرفها، وصاحبة مواقف نزيهة ومليئة بالأيثار مع الكثير من المبدعين، وفوق هذا لها حضور يسعد النفس.
من خلال هذه الكلمات وددتُ أن أعبر عن امتناني لك ياصديقتي العزيزة هدى، أردتُ أن أقول بأنك لم تكوني صديقة صادقة فقط، بل كنتِ منجماً للمحبة والألفة، والروح التي أكملت حكاية بغداد في تلك السنوات، وكنتِ اللَفتة الحانية التي أوصلتْ أصواتنا خارج البلاد رغم الحدود ومنع الكلام... وصعوبة السفر.