حيدر المحسن
عزا بعض النقّاد سبب شذوذ الشاعر في موضوعة الجنس إلى تعلّقه بأمه، ورغبته في -تقمص شخصيتها!-، نقّاد آخرون عدّوا انحرافه الجنسي امتداداً للإخفاق الذي أصاب عائلته، أو إلى تدهور الحضارة اليونانية التي كان يعدّ نفسه أحد ورثتها، الهموم التي كابدها من جرّاء ذلك جعلت حياته لا تكون سوى الماضي غير القابل للتحوير والتحسن، ومضت أيامه في حالة سقوط لا ينتهي يعتصر قلبه شعرا.
يمكننا عدّ هذه القصيدة مفتتحاً لقراءة شعر كافافيس الإباحي:
«جاء ليقرأ.
أمامه كتابان أو ثلاثة كتب، لمؤرخين وشعراء
لم يكد يقرأ عشر دقائق حتى أمسك،
هو الآن على الأريكة نصف نائم”.
كتبٌ لمؤرخين وشعراء؛ هي مكتبة كافافيس إذن، لا غيره، والذي أغفى في هذا الجوّ هو الشاعر الشابّ، وكان يتقلّب في نار فتوّته الهادئة:
«إنه ينتسب كلياً إلى الكتب –
لكنه فائق الجمال، ذو ثلاثة وعشرين ربيعاً،
وهو، في هذا المساء، مرّ الحبّ على جسده الأكمل
على شفتيه»
قصيدة “الولاية” تساعدنا أيضا في إلقاء الضوء على شعر كافافيس الإيروسي: وتدور حول ولاية سوسة الفارسية -أي الشوش المتاخمة لمدينة العمارة الحالية، في جنوبي العراق_ حيث يستقبل ملكها أرتاكسيركسيس شابا يونانياً يهوى الفن لجأ إليه بعد خلافه مع حاكم أثينا:
فأدخلك بلاطه مرحباً
وعرض عليك أقاليم وأشياء من هذا القبيل –
أشياء لا تريدها أبداً
رغم أنك تقبلها منقبض النفس
فأنت تتمنى شيئا آخر، تهفو إلى أشياء أخرى
إنك تتوق إلى كل ما هو صعب لا يقدر بمال؛
المحافل، المسارح، وأكاليل الغار
لا تستطيع أن تنال أيّاً منها من أرتاكسيركيس
لن تجد أيّاً منها في الولاية
وبدونها، أيّ نوع من الحياة ستعيش؟
يمكننا اعتبار أحسن حالات الفنّ هو عندما يكون تكملةً للشباب، والعكس صحيح، فكلاهما ينزعان إلى الكمال الجمالي، الشباب هو مرتكز الفنّ، ومرساه الأخير، لا يعيش الفنان في غير محيطه، ولو أوتي الأقاليم كلها يحكمها بصفة ملك، يقدّم له الفن تجربة حيّة رغم أنها تبدو غريبة، وما يجعلها فريدة هو أنها مفتوحة أكثر في صدقها، ونقيّة. تنتهي قصيدة «جاء ليقرأ» بهذين البيتين:
دفٌّ شبقيّ دخل جسده الفاتن –
دون إحساس بخزيٍ سخيفٍ من شكل متعته
ما جعل الشابّ ينظر من علوٍّ بالغ إلى مجتمعه وهو غائب عن وعيه تقريباً هو تقابل حمّى الحبّ ونار الفنّ واشتعالهما في مكان واحد، إنه انسان شبقيّ، وشبقه من النوع الذي يتوطّد في الفنّ، وفي لذّات الجسد، وأثبت هذان النوعان أنهما ملزمان للشاعر، وما كان يدور في نفسه من صراع بينهما هو الذي أنتج قصائده الإباحية.
اثنان عاشا معه وكتبا عنه؛ الناقد إ. م. فورستر والروائي لورنس داريل، وكلاهما متفقان على أن أهمّ ما يميّز شخصيته هو قدرته غير العادية كمتحدث: «قصائدي هي ذاتي، إن رغبتم في قراءتها كما يجب أن تُقرأ، عليكم أن تعرفوا كل شيء عني، وهذا يعني معرفة كل ما يتعلق بحياتي في الإسكندرية، وما يتعلق بأسلافي الأرستقراطيين، كذلك بمجد مدينتي وانهيارها، وبالأشياء الأخرى التي تثير اهتمامي». ليس من باب الصدفة أن يولد الشاعر في 29 نيسان 1863، ويفارق الحياة في التاريخ نفسه 29 نيسان، ولكن من عام 1933، رحلة حياته تشبه دائرة اكتملت وتمّت، وكان يقطعها حبل سريّ ما بين الميلاد والموت هو الشعر، فهي بالتالي مغامرة في الفنّ أكثر منها حياة عاديّة، ولا يمكن تناولها كما هي، كأن هناك عقلاً سريّاً يقف وراء كتابة كل قصيدة، يتأمل القارئ عند ختامها لوحة فنية تشترك جميع مكونات حياة الشاعر في إعطائها الشكل الأخير.