حيدر المحسن
يُروى عن كافافيس إنه كان يكتب سبعين قصيدة في السنة، ويبقى مشغولاً طوال الوقت في تنقيحها، وبعد الحكّ والشطب، بعد الصقل ومعاودة الكتابة لا يتبقى منها سوى أربع أو خمس قصائد.
«المدينة»، القصيدة الشهيرة كُتبت أول مرة في 1894، وبقيت محفوظة بين أوراق الشاعر حتى عام 1910 عندما نشرها في مجلة «الحياة الجديدة»، وفي 1914 أعاد كتابتها للمرة الثالثة، حتى عنوان القصيدة تغيّر، بعد أن كان «في المدينة ذاتها من جديد». مثال آخر: قصيدة “ذيماراتوس”، الملك اليوناني المطرود، الذي لجأ إلى ملك الفرس وتآمر من هناك على بلاده، نُظمت أول مرة في 1904، وأعاد الشاعر كتابتها في 1911، لكنها لم تأخذ شكلها النهائي إلا في عام 1921.
استعمل كافافيس اللغة العادية في شعره، لكنه حاذر أن تضمّ كلمات بالية بسبب كثرة التداول ، اللغة العامية ، هي الأخرى، مليئة بالثروات ، ويمكن لمفردة أن تحيل الجملة الشعرية إلى خزانة مليئة بالرموز الممتدة الفعالية والأثر. يخبرنا الناقد الأميركي إدوارد روديتي أن كافافيس كان يجرّب المفردة التي يشكّ في استعمالها في أحاديث تافهة مع أشخاص أصدقاء أو غرباء، فإن فهمها الجميع وبشكلها المناسب، استخدمها وبمهارة فريدة في شعره، يقول كافافيس:»يجب أن تعطي الكلمة كل ما فيها من تأثير، وهذا هو الأهمّ في لغة الشعر».
دعونا نتأمل تأثير اللون الأبيض هنا:
«على تابوته الرخيص، وضع (صديقه) من أجله بعض
الزهور البيضاء، زهور جميلة وبيضاء، وقد كانت هذه
الزهور مناسبة له، ولوسامته، ولسني عمره الاثنتي
والعشرين”
قبل ستة شهور من وفاته أخبر الشاعر أصدقاءه أنه ما يزال عليه إتمام ما لا يقل عن خمس وعشرين قصيدة يعود تاريخ كتابتها إلى عامي 1918 و 1932. ما سبب هذا الهاجس في التغيير المستمر في القصائد؟ إنه البحث عن صرامة في البناء تعطي الشاعر القدرة على بعث لحظات شعرية مهما كان موضوع القصيدة، لحظات شعرية نادرة سوف “يتعهدها في أعماق روحه مثل شيء مقدّس إذا ما اقتربتَ منه سجدتَ» على حدّ تعبيره.
بالإضافة إلى البناء القويّ، هناك لهفة صادقة في التبسيط في اللغة، التغييب المتعمّد لكثافة البنية الفكرية في القصيدة سببه إحجام مقصود من قبل الشاعر عن التجريد الذي امتاز به الشعر الرمزي السائد آنذاك. لكن البساطة في اللغة لا تعني السهولة في المأخذ والمُعطى، إنها البساطة التي نستدلّ بواسطتها على رموز الروح، ونتعرّف على خفايا الجسد، وبهذا لا يصبح في النتيجة تباعد بين لغتي الروح والجسد، بين الباطن والظاهر:
«وأنا أنظر إلى قطعة أوبال نصف سوداء
تذكرت عينين سوداوين جميلتين
رأيتهما منذ عشرين عاماً، على ما أظن”.
الأوبال حجر كريم، وفيه قوة من نوع خاص، والعينان السوداوان صارتا بواسطة المقاربة الشعرية جزءا منه، والأمر هنا تجاوز فن الاستعارة الشائع في دنيا الأدب، فالشاعرلا يخلق واقعا جديدا مغايرا عن الأصل، لكنه يعمد إلى دمج إشارات الروح مع علامات الجسد كي يصير لسان الاثنين واحدا، وتصير مباهجهما متشابهة.
بالإضافة إلى اللغة العادية، استعمل كافافيس أشخاصاً عاديين في قصائده؛ عمّال خردة، حدّادين، وصبيان الخدمة في الفنادق:
«صبيّ إلى جوار نافورة رقد
يا له من صبيّ مليح، ويا لها من رائعة تلك الظهيرة التي احتوته في إغفاءته
أجلس، وأتأمل ساعات طوالاً هذه اللوحة
وها أنا بالفنّ ذاته أستريح، وأعود أتخفّف من عنائه.
المشهد واضح الألوان، ويبلغ ثباته على الورق أنه ما يزال حيّا بالنسبة لنا رغم ابتعادنا عن تاريخ كتابته. إنه حياة صامتة في دنيا الشعر، إذا صحّ التعبير، وليس فيه صور مهزوزة تومض على الشاشة، ويعود ثباته بالدرجة الرئيسية إلى السهولة المتعمّدة في البناء، وفي اللغة المستعملة.