ستار كاووش
القطار العائد من كركوك الى بغداد يوشك على الانطلاق، وقد أخذتُ مكاني سارحاً في تلك الظهيرة وأنا أتطلعُ بين لحظة وأخرى من نافذة القطار الى الناس الذين يسيرون يميناً وشمالاً في المحطة المزدحمة.
فتحتُ حقيبتي وانتشلتُ علبة عصير صغيرة بدا الأسم المكتوب عليها غريباً (راوخ) كانت كلمة ألمانية ثقيلة اللفظ رغم أن العصير لذيذ جداً. وفيما الوقتُ يمرُّ ببطء، لمحتُ رجلاً في الأربعين من العمر تقريباً يسير في ممر القطار، وعند اقترابه مني، توقفَ وجلسَ على الكرسي المقابل لي، بعد أن وضع حقيبته القديمة على الرف العلوي، بينما بقي الكيس القماشي الذي معه، متدلياً بين يديه النحيلتين. وما أن تحرك القطار، حتى أخرج الرجل من كيسه كتاباً صغيراً وشرعَ بالقراءة. مرَّتْ لحظات حتى أخذ الرجل يتنقل ببصره بيني وبين الكتاب، حتـى خلتهُ يراقبني أو يبحثُ عن شيء في ملامحي، حاولتُ أن أتحاشاه، لكن عيناه الثعلبيتان كانتا تقفزان بين لحظة وأخرى، وهما تلتمعان فوق حافة نظارته الداكنة. وحين أوشكتُ أن أسأله عن سبب تطلعه الغريب لي، بادرني هو بالسؤال (لقد أوصلتَ حبيبتك الجميلة الى هنا، وها أنت عائد الى بغداد، أليس كذلك؟) اندهشتُ من كلماته الواثقة! وتيقنتُ بأنه يعرف عني الكثير، وقبل أن أجيبه بشيء، باغتني بسؤاله الثاني (أنت طالب في الأكاديمية أليس هذا صحيح أيضاً؟) وهنا كان عليَّ ان استسلم لمعلوماته، فجمعت أفكاري وسألته (نعم، كل ما ذكرته صحيح، لكن قل لي بربك من أنت وكيف عرفت ذلك؟) فعدل من وضع نظارته وأعاد الكتاب الى الكيس القماشي قائلاً (ياصديقي، هناك شيء اسمه الاستنتاج، والعملية بسيطة ولا تحتاج الى عبقرية أو تعقيد، بل الى ربط الأشياء مع بعضها بطريقة جيدة: واضح أن عمرك في بداية العشرينيات، وقد رأيتك تتلفت وتنظر من النافذة كل لحظة وكأنك فارقت شخصاً عزيزاً، وهذا القطار عائد الى بغداد، وبنطالك عليه بقع صغيرة من الألوان، وحقيبتك الغريبة تنبعث منها رائحة الألوان الزيتية..... اجمع هذه الأشياء مع بعضها وستظهر لك النتيجة) لحظتها أيقنت أن هذا الرجل الذي لا أعرفه، لمّاحاً ويتمتع بذكاء حاد ونظرة ثاقبة. مرَّ الوقت بصمتٍ بعد أن عاد الرجل للقراءة، وأنا بدوري قمتُ برسم مجموعة من التخطيطات على الأوراق التي اخرجتها من الحقيبة، بينما القطار يتهادى بإتجاه العاصمة. وحين اقتربنا من بغداد، أخذ القطار يتمهل في سرعته بشكل مفاجيء، ليبدأ صديقي الغريب بالتطلع من النافذة وكأنه يبحث عن شيء ما خارج القطار، حتى خلتُهُ ينتظر شخصاً سيلوح له بيده، أو ربما كان يبحث عن نقطة معينة. بدأ القطار بالدخول الى بغداد فأبطأ سرعته أكثر، ليمدَّ الرجل رأسه نحوي بعد أن أنزَلَ حقيبته بيد وأمسكَ الكيس القماشي باليد الأخرى قائلاً (انتظرتُ حتى يصل القطار الى هذا المكان، فهو أقرب للوصول الى بيتي) ولم يعطني فرصة للرد عليه، بل سار سريعاً نحو الباب، وحين أبطأ القطار سرعته الى الدرجة التي ينتظرها، قفز صاحبي نحو ما يشبه المنحدر الترابي وظل يترنح دون أن يسقط، بينما تهتز الحقيبة على ظهره ويتدلى الكيس من يده، واختفى بعيداً خلف القطار الذي أكمل طريقه نحو المحطة الرئيسية.
مرَّت الأيام، وفي خضم زحام الوقت والمشاغل التي لا تنتهي، نسيتُ أمر ذلك الرجل غريب الأطوار، وفي إحدى الأمسيات كنت جالساً مع مجموعة من أصدقائي الشعراء في النادي الصيفي لإتحاد الادباء، ووسط هذه الأجواء والضحكات والتعليقات التي تتخللها قراءة بعض القصائد، كنت أتطلع نحو الطاولة التي قرب سياج الحديقة، والتي تضم سامي محمد ورياض قاسم ومجموعة اخرى من كتّاب الستينيات، وبينما أنا على هذا الحال، فإذا بشخص يقفز من تلك الطاولة، وينتصب كأنه يحاول أن يطاول الفضاء فاتحاً ذراعيه بطريقة مسرحية، وهاتفاً نحوي بصوت عالٍ (رجل القطار؟!) إنتبه جميع الموجودين لصوته العالي، وبعد أن تبينته جيداً فإذا به صاحبي ذاته الذي تعرفت عليه في القطار القادم من كركوك. ياللمفاجأة! ماذا يفعل هذا الرجل الماكر بين هؤلاء الكتّاب المشاهير؟ وكيف انتبه لي بهذه الطريقة رغم نشوة السهرة التي انطبعت على ملامحه وبانت عليه؟! حاولتُ ترويض هذه التساؤلات في ذهني، لكنه إنطلقَ نحوي ضاحكاً وكأنه يستعيد قفزته الرهيبة تلك، وهو يردد جملة (رجل القطار) أكثر من مرة، ليعانقني كأننا نعرف بعضنا منذ زمن بعيد، ويقدم لي نفسه (الشاعر والصحفي سلمان السعدي) وهنا ضحكتُ وأنا أقول له (أنا ستار كاووش، ولا داعي لتذكيرك بأني طالب في الأكاديمية، فقد عرفتَ ذلك من واقعة القطار)، وهنا ارتفعت أصوات أصدقائي الذين تركوا انشغالهم بقصيدة النثر، وهم يرددون (قطار...؟! واقعة...؟! ). تحدثتُ معه قليلاً ليعود بعدها الى طاولته فرحاً، وانا كذلك أخذتُ مكاني سعيداً بتجدد اللقاء وغرابته مع هذا الصديق الأكثر غرابة. مرَّت الأيام وعرفت ان الصحفي (الشيوعي) سلمان السعدي يعمل في جريدة الجمهورية، ثم عرفت بأنه قد سُجِن، ومرت السنوات ولم ألتَقِ به مرة أخرى، وخرجت من العراق، ليظل في ذاكرتي الى الأبد. وها أنا أتذكره من جديد، لذا أحببتُ أن أشارككم بحكاية ذلك الصديق الذي بدا عابراً، لكنه ظل يسكن الذاكرة.