طالب عبد العزيز
من قواعد الكتابة في العمود الصحفي هو أن يحرص الكاتبُ على أن يكون مرآة صافية واضحة للواقع القائم والمعاش، لكي يرى القراءُ الواقعَ وأنفسهَم في تلك المرآة، وعليه أن يدور في عموده حول الحياة الواقعية العامة، بغيته تعزيز الارتباط والعلاقة والتجاوب بين القرّاء من جهة والصحيفة و الكاتب من جهة أخرى. وبقدر ما هي(كتابة العمود) هامة وضرورية وجميلة في أمكنة ما من العالم، إلا أنها مجازفة وشاقة في بلدان أخرى.
ربما يقع المستهلُّ هذا ضمن حدود القاعدة العامة، في العمل الصحفي، التي يتوجب على الكاتب التمسك والتقيّد بها، غير أنَّ الحياة بمُنقلبها العام في العراق بخاصة، والرجة العنيفة التي أحدثتها ثورة الاتصالات الحديثة، واتساع رقعة العمل الصحفي والإعلامي، وتعدد وسائط التواصل الاجتماعي ربما تكون قد فككت الكثير من ثوابت القاعدة تلك، أو وبعبارة أدق عبث بمنظومة التلقي التقليدية(الكاتب-الصحيفة- القارئ) ولم يعد القارئ كما كان عليه من قبل، فقد دخل منظومة التغيير والتوسعة أيضاً، وأصبح مؤثراً وفاعلاً فيها لذا، يجد كاتب العمود في الخروج على القاعدة تلك ما يؤمّن له المساحة الاوسع، والصلةً المثلى معه، فهما يتساوقان في التفاعل، ويتماهيان في الافكار.
ذات مرة، عاب أحدُ القرّاء عليَّ تذمري من مكبّرة الصوت في عربة بائع الخضار المتجول، التي تخترق الغرفة، حيث أكون دائماً، ووصفني كما لو أنني اتعالى عليه، أو أحطَّ من شأنه !! وهو بذلك يجعلني في وارد المساءلة عن نفسي، هل كنت حقاً كما وصفني؟ قطعاً لا، فالكاتب مثلي لا يمكن أن يتعالى، لكنه يبحث في إمكانية إيجاد الصيغة المثالية للنداء ذاك، وهي ليست مسؤولية البائع ذاته، إنما هي مسؤولية مشتركة تتحمل الحكومة بقوانيها حمايتنا معاً، لأنني لا أتحدث عن امتعاظي الشخصي، إنما اتحدث عن امتعاض عشرات ومئات الناس، الذين يشاركونني الشارع والضاحية، حيث أسكن ويسكنون، والمشرّع العراقي لم يترك الفصل هذا خارج عنايته، بل أطَّرَه بقانون واضح، كفل به حقنا في التمتع بحياة ليس فيها ضوضاء.
قارئٌ آخر نصحني بعدم الخوض في مديح سياسة الحكومة -هل صنعت شيئاً لتستحق المديح- ؟ وأنْ أبقى في حدود الشعر وحبِّ النساء، وامتداح النبيذ هههه، وأنّي أجده محقاً، فأنا أمرؤ جئت خِرْبَةَ الصحافة من حديقة الشعر، فمالي والحكومة، ومديح بعض ما تصنعه هنا وهناك، ما لي وصداع الرأس الذي ذهب بالعشرات من أقراني الى الغياهب والمنافي والتوابيت، ما لي ووطن لست فيه أكثر من حجارةٍ تتقاذفها الأقدام. وهنا عليَّ أنْ اعترف بأنَّ صديقي القارئ قدّم لي نصيحة مثالية. نعم، عليَّ التشبّث بوطن الشعر، فهو التشبث الوحيد الذي أحسن قراءة خاتمته.
هل أخللتُ بقاعدة كتابة العمود هنا؟ وهل ابتعدت عن هموم ومعاناة الناس، الذين انتمي اليهم، واشترك معهم في الأرض والماء والسماء؟ هل أسأتُ لبائع الخضار الذي تمزِّقُ مكبرةُ صوته أذني صباح ومساء كل يوم؟ هل أشكوه الى الحكومة، أم اشكوه الى خديعتي في وطن فقدناه معاً؟