حيدر المحسن
«ما أشبهنا بأهل طروادة، نحن المغلوبين على أمرنا؟» يتساءل كافافيس، وكان يصوّر ساعة عصيبة على الجميع، فما الذي يفعله المقاتل العادي إذا واجهه رجل نصفه إلهٌ، ونصفه الثاني بشر. هو أخيل، بطل طروادة الشهير، وكان “يقفز، أمامنا، وبصيحاته يلقي الذعر في الأوصال”. القصيدة قديمة وحديثة في نفس الوقت: يهرب الجميع طالبين النجاة، لأن الاندحار أمام أخيل بات مؤكداً:
“وبدأ العويل يفد عبر الأسوار
وعلا النواح من فوقها على ما فات من أيامنا، وعلى ما فات
من عواطف وذكريات”
إنه تمثيل للحاضر والماضي، أو أن الحاضر يتشكّل في الماضي بصورة شعرية في تقرير سرديّ يكاد يكون جافا، حيث يتمّ التعبير”بأقل قدر من الكلمات ودون أي محاولة للتأكيد على أيّ معنى داخلي” على حد تعبير الناقد “بيتر بيين”، مؤلف كتاب “المثلث الإغريقي”. الحاضر والماضي القصيّ هما الولع الكبير للشاعر:
“مثل أهل طروادة نحن، جهودنا، مثل جهودهم محبطة
نعتقد أننا بالعزم والإقدام، سنغيّر من مصائر العدوان”
أثناء حرب طروادة كان برياموس هو الملك، وهيكوبي هي الملكة، وتنتهي المعركة حين يندفع العدوّ ويستولي على المدينة بالكامل:
“بحرقة يبكي برياموس وهيكوبي علينا
من أجلنا يبكيان”
الخسارة أكثر من فادحة، وآثار الصدمة في كل مكان، وتتجلّى بصورة خارقة للعادة. وأطبق المساء على المدينة المنكوبة بكلّ أطياف اللون الزهريّ التي يمكن تخيّلها، تتلاشى وسط العويل تحت حجاب رماديّ مزرقّ يلفّ الظلام. لكن الحياة الآن اختلفت، ولا يوجد دليل على أن هذه الأحداث وقعت في يوم من الأيام، بالإضافة إلى أننا لسنا أهل طروادة، ولا يحكمنا ملك وملكة، وقد غادرنا أخيل منذ زمان طويل، فكيف نفسّر انتماءنا إلى جوّ القصيدة؟
هل يعود السبب إلى سحر السرد، وقد اجتمع مع سحر الشعر، وفعل السحران بنا معا؟
أم أنها نبوءة الشعر، تحقّقت من بعد أكثر من ألف ألف عام؟
في كلّ عصر لا بدّ من وجود أحد ينظر إليه الجميع على أنه نصف إله. في البلدان التي لا تعيش حاضرها بكلّ زمنه يعود الماضي حيّا حتما، ففي عودته نوع من المواساة، كما أن فيه إثباتا على أن الأرواح لا تموت، وإنما تلتقي حتما بمن يشبهها. ولكن هل الماضي ضروري؟ وهل يستطيع الإنسان العيش خارج حياة جيله وحياة عصره؟ للإجابة على هذا السؤال أذهب بالرأي إلى توماس مان: “بما أن القصص يجب أن تكون في الماضي, إذاً كلما كان الماضي أبعد فذلك أفضل”، إن لدى الإنسان رغبة على الدوام في تذكّر ما كان، ونسيان ما سيكون.
أخيل الذي ما يزال يزمجر في الساحة منتشياً بنصره نلتقي به في قصيدة أخرى عنوانها “غدر”، أعاد الشاعر فيها كتابة أسطورة البطل، ولكن هذه المرة بلغة العقل:
“في زفاف ثيتيس وبيليوس، نهض أبولو واقفا أثناء الحفل الباذخ، و بارك الزوجين. وعن الابن الذي سينجبانه قال: أبداً، لن يزوره المرض، وسوف تكون حياته مديدة”.
النهار يتغير شيئاً فشيئاً، وفي ذلك الأصيل الذي كان يسرع نحو الغروب جاء بعض من كبار السن عائدين بالأنباء، وأخبروا بأن أخيل قتل في طروادة، فشقّت ثيتيس ثيابها الإرجوانية، وتساءلت ماذا كان الحكيم أبولو يفعل عندما حدث ما حدث؟ وأجاب كبار السن بأن أبولو نفسه، كان قد نزل إلى طروادة، وقتل مع الطرواديين، أخيل”.
حتى الآلهة تكذب، وتخون، وتغدر بنا، فبمن نصدّق إذن؟ وما هو الحلّ؟
كأن الشاعر الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس قرأ قصيدة “غدر” جيداً، وأراد الانتقام لنا من الآلهة، وكتب قصته الشهيرة: “راغنا روك”، والتي تعني: مصير الآلهة.
يتبع.