طالب عبد العزيز
تقول الذاكرة البصرية بأنَّ متصرف البصرة في اربعينيات القرن الماضي صالح جبر هو الذي اختط شارع الأمير عبد الإله، شارع الحرية فيما بعد، أو شارع الكورنيش اليوم، وإنَّ ممثل التاج الملكي البريطاني في البصرة كان رافضاً لفكرة الشارع هنا، إلا أنَّ البصريين فوجئوا صباح أحد الايام من العام 1940 بالجرارات وهي تكتسح وتردم وتسوي الأرض بأمر من المتصرف،
فأزيل مقر القائد التركي وسكن رئيس أطباء المستشفيات البريطانية الدوق Nor Bore مع ما أزيل من النخل والأشجار وعدد من مساكن الطبقة العلية، ليقوم أجمل وأهم شارع في المدينة، التي تلبس اليوم حلة جديدة من خلال المشاريع الخدمية فيها.
ومنذ التاريخ ذاك لم يعد شارع الكورنيش هذا مجرد شارع للذهاب والإياب، وتنقل البصريين عليه في المساءات، أو النزول منه الى شط العرب والتمتع بمنظر الماء، ومعاينة المدينة من النهر، في تداول تقليدي للمشهد، فالقاعدة أنْ نطلَّ على النهر من اليابسة، لكننا ساعة نكون في النهر نعاين اليابسة منه، وليس ذلك كله، فالعين أسطرت الشارع والنهر وتولد في الذاكرة منهما ما اندمج في النفس وصار جزءاً منها، إذ، لا يمكن تصور البصرة بكاملها خارج وجود الكورنيش، وإذا كان تمثال الشاعر بدر شاكر السياب قد بات إيقونة المشهد في القطعة الصغيرة المقابلة للبنك المركزي، فالقول يصحُّ على أنَّ كل بقعة في الشارع، من مدخل نهر العشار الى مدخل نهر الخورة أصبحت ايقونة في ذاكرة الناس هنا.
ربما أكون من الجيل الذي كان شاهداً على أهمية وجمال الشارع، وتحتفظ ذاكرتي بالعشرات من المشاهد، التي كانت قائمة مثل المقاهي والمطاعم والبارات والاكشاك الصغيرة، وأحفظ عن ظهر قلب أمكنة الاشجار العملاقة، محفورة الجذع بعشرات الاسماء العاشقة والسهام التي تخترق القلوب، وما زلت أحتفظ بثلاث ورقات مكتوبة بالقلم الرصاص، هن مسودة قصيدتي(الهياكل المضيئة) التي كتبتها في مقهى البدر الشتوي فجاءت طعم القهوة بالحليب الذي طلبته، فيما كانت زوراق الهنود التي احتجزت بسبب الحرب تغرق أمامي شيئاً فشيئاً، وظلَّ في ذاكرتي ماثلاً الى اليوم فندق (سان جورج) الذي هو بيت الشعيبي، أحد أثرياء البصرة آنذاك، و(فندق جبهة النهر) الذي هو بيت أحد أفراد أسرة المنديل المعروفة.
يومذاك كان بإمكاننا معاينة ثياب فنانات ملاهي البصرة منشورة على درابزين شرفات فندق سان جورج، من مقاعدنا في مقهى البدر، حيث يفصل الشارع (الكورنيش)بين الفندق والمقهى، وكنا نتلمس أبيات قصيدة سعدي يوسف(سقوط فندق النهرين) في شجرتي الواشنطونيا، الباسقتين عند مدخل فندق جبهة النهر وكنا وكنا .. ترى، هل نؤمل أنفسنا خيراً بأن نشهد شارعاً مختلفاً باهراً واستثنائياً، ونحن ننتظر الـ 400 يوم، حيث موعد انتهاء أعمال تجديد شارع الكورنيش من قبل شركة سهل العراق؟ وهل سيكون بمقدور حكومة البصرة انتزاع بهجة البصريين من بين أنياب الوحوش الذين شيدوا ما شيدوا عليه؟
جميع التعليقات 1
رمزي ناري
أحنّ إليكِ يا بصرتي