حيدر المحسن
- 2 -
“كان المشهد كلية الفلسفة والآداب، والساعة هي الغسق. وكعادة الأحلام، كان كل شيء مختلفاً، فقد انتاب الأشياء اتساع طفيف. كنا ننتخب الموظفين. وكنت أتحدّث مع «بيدرو هنريكيز أورينا» الذي مات في عالم اليقظة منذ سنين عدة، وفجأة قاطعتنا جلبة، وكأنها مظاهرة أو عصبة من موسيقيّ الشوارع، زعيق حيواني وإنساني معا جاء من الأسفل. وهتف صوت ما: «ها قد جاءوا!» ثمّ «الآلهة!، الآلهة!».
صفّق الجميع مرحّبين، وكانوا يبكون من شدة الفرح، فها هي الآلهة تعود من بعد قرون طويلة من الغياب. وفي دقائق اعتلى هؤلاء المنصّة، ووقفوا جميعاً في مشهد مسرحيّ، وكان الناس يهتفون لهم...
في الأساطير الاسكندنافية تجري معركة بين الآلهة والبشر يخسر فيها الآلهة، ثم ينبثق من خراب العالم الذي كان هؤلاء يتحكّمون بكلّ صغيرة وكبيرة فيه عالم جديد تسوده العدالة، من اسم هذه المعركة استعار بورخيس عنوان قصته، راغنا روك، والملاحظ أنه لم يعطِ الآلهة أسماء قديمة، أو جديدة، ولكنه عرّفهم بأوصاف غريبة، بل وشائنة. كان أحدهم يرفع يده بإيماءة واسعة يحيّي بها الجماهير، لكن تحيته ضاعت في مخلب كان هو يد الإله، وحين همّ آخر بالكلام تنبّه الجميع إلى منقار معقوف في وجهه، وكان صوته عبارة عن زعيق وصفير. الجمهور يصفّق، والآلهة يردّون بكلام يشبه الغرغرة. صاح أحد الجالسين في القاعة:
“الآلهة لا تجيد الكلام!”.
زعيق وغرغرة وصفير، هذا هو منطق الآلهة القديمة، أفقدتهم الحياة الفظّة المتعطشة للدماء كل ما هو إنساني، وتعامل الصليب المسيحي والهلال الإسلامي بصرامة معهم. دقائق، وانقلب الإعجاب الشديد لدى الجمهور في القاعة إلى إعراض وصدّ.
قصة راغناروك تشابه تجربة كافافيس مع الآلهة التي خذلت أنطونيو، وقتلت آخيل، بعد أن أعطت وعداً في الحفاظ على حياته. السخرية واضحة، وإحضار الماضي متشابه لدى الشاعرين، من أجل استنطاقه وحلّ لغته الغريبة وترجمتها إلى كلام مفهوم.
“شنتو” هو عنوان قصيدة أخرى لبورخيس، وهي ديانة يابانية تؤمن بآلهة لا يعرفها أحد ممن تربّوا على الديانات القديمة، أو الجديدة. إنهم ليسوا أبولو وعشتار وباخوس، ولا يانوس أو حتوت، وهم كذلك ليسوا ممن يعبدهم المسلمون أو اليهود والنصارى:
“ عندما يصرعنا الحزن
للحظةٍ يُنقذُنا
طعمُ ثَمَرةٍ، طعمُ الماء
أولُ الياسمين في نوفمبر
كتابٌ حسبنا ضياعَهُ”
ويمضي الشاعر في ذكر آلهة العصر الجديد، والذين هم من طينة أخرى، ودينهم مختلف:
المفتاح الصغير الذي يفتح بيتا لنا،
رائحةُ مكتبةٍ، أو رائحة الصندل
الاسمُ السابقُ لشارع ما،
ألوانُ خريطةٍ، نُعومةُ ظُفْرٍ مَبرُود
عندما يكون الإله لا أحد، يكون الإنسان هو الكلّ، له البهاءات الفسيحة والمضيئة والمرهفة، بينما حوّلت شهوة
الآلهة القديمة للدماء الإيمان إلى تمرين في الملاكمة، أو حفل من القتال الحرّ بمختلف الأسلحة. آلهة الشنتو
احتفظت ببراءتها، وبقيت مخلصة لنا ووفيّة في كل وقت، ولا يتطلّب الإيمان بها منا غير الاعتراف بها، لتقدّم لنا
كلّ ما نريد دون مقابل، ومن غير نزاع دمويّ بينها، أو فيما بيننا:
ثمانية ملايين من آلهة الشِنْتو
تسافرُ سِرّاً على الأرض:
تلك الآلهة المتواضعة تلمسُنا-
تلمسُنا وتمضي قُدُماً.
في قصة “راغناروك” يقوم بورخيس برسم صورة مرعبة للآلهة التي حضرت إلى كلية الفلسفة: “لها جباه خفيضة، وأسنان صفر، وشوارب خفيفة، وشفاه وحشية سميكة”. أخذ الناس يدقّقون النظر، ولاحت لهم بقعة لون تشبه الدم في عروة أحد، وتحت السترة “المحكمة” لآخر انتفخ شكل خنجر. كانوا يتنازعون إذن إلى حدّ التقاتل. أيّ آلهة مزيفون هم إذن؟ وفي لحظة عظيمة من حياة البشر يسحب المتفرجون في القاعة مسدساتهم “الثقيلة!”، ويقضون على هؤلاء الآلهة “بالتذاذ!”.