TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناطر: هل من ملوّنٍ لحياتنا ؟

قناطر: هل من ملوّنٍ لحياتنا ؟

نشر في: 9 مايو, 2021: 10:21 م

 طالب عبد العزيز

نحن نعيش حياة بلا ألوان. الشوارع سود، والمباني رمداية وإسمنتية، وإن وجدت فهي ترتجل، وعلى حسب مشيئة صاحبها، إدارات المدن غير معنية بألوان الدور والمحال والمؤسسات، الرجال بأذقان سود والنساء بثياب سود أيضاً، هذه مدن مظلمة ليس فيها معلم بصري جميل (بتعبير المهندس المعماري د. أسعد الأسدي) نشير اليه.

نعم، هناك بعض المدارس الأهلية والمتاجر الكبيرة الحديثة من فكر أصحابها بتلوين الواجهات تلك، إنما بغرض جلب عدد أكبر من الطلاب أو الزبائن، بمعنى أن ليس هناك من هارموني ما ينظم العلاقة المادية بالجانب البصري.

يبني الولدُ بيته في حديقة بيت الوالد، فتختفي نخلة العمر، التي غرسها، وتختفي معها شجرتا العنب والليمون، وتذهب الى غير رجعة، شجيرة الآس، وشتلات الورد الجوري، وينكشف السياج عن لوح اسمنتي رمادي، صامت بعد اختفاء تسريحة الجهنمي من عينيه، وهكذا، تحولت حديقة بيت الجيران الى محل تجاري، وارتفع سلّم من الحديد الصديئ، فأخترق النسق الجميل الذي كان، لتعلو شقة الولد الاصغرصفيحاً وسندويج بنل وثآليل أخرى، تمنح الفضاء مشهداً لا أقبح منه. ولا نعرف كيف تبدو صورة مدننا من الجو، فنحن لا ننظر من نوافذ الطائرات إلا للمدن الجميلة الباهرة، ذات الحدائق الواسعة والسطوح القرميدية.

تتاح لنا أحياناً الفرصة لمعاينة معرض تشكيلي، لفنان ما، أو لمجموعة فنانين، فنذهب تحت عناوين مشتركة، ليس أقلها العثور على لحظات جميلة، تخفف من وطأة ما نعيشه، لكننا، غالباً ما نعود بالخيبة من هناك، فالفنان نتاج الألوان تلك، وهو محصلة للألم الذي نكابده معاً، فلا مباهج لونية، ولا حدائق، ولا نساء جميلات بصدور بيض ناهدة، ولا سيقان فاتنة، ولا علاقات حب عارمة ترسلها المقل العاشقة، إذ كل ما كان معلقاً هناك موحش وصادم، أما مشاهد الورد والوجنات البراقة والبراءة والطفولة التي نفترضها في لوحاتهم فلا وجود لها، فقد ذهب الفنان الى التجريد والتغريب ليجيء لنا بفوضى حياتنا، التي هربنا منها إليه، باعتقاد بدا خاطئاً.

يتحدث محبو الأغنية العراقية عن فترة السبعينيات فيصفها بعضهم بالعصر الذهبي !! ولا أعرف كيف يصف هؤلاء أغاني النواح والوحشة والغربة والحرمان بذلك؟ وكيف تُفهم معاني الذهب وتقلباته البراقة على صدور الجميلات بتكسرات صوت ياس خضر الملّائي مثلاً، ولماذا تصبح أغاني مثل يا حريمة، وتايبين، ومدللين، ومشيت وياه، ومرينه بيكم حمد، وهم رجع كلبي يحن، وياغربة، وبيّنْ علي الكبر، وغريبة الروح .. والى ما لا نهاية له من العناوين التي لا دالة فيها على الفرح. وهنا، لا أتحدث عن الصوت والاداء والموسيقى إنما عن الكلمات التي تستدعي النواح والصوت المبحوح والجنائزي.

وأنا أخطُّ حروف الورقة هذه، وجدتني محاصراً بالقبح كله، ولتلافي ذلك فقد هربت الى مائدة نزهت، الى صاحبة (أم الفستان الاحمر)، الى (هل الليلة حنتهم، بالبصرة زفتهم) الى (لا ياهوى لا تلعب بحالي لعب) الى الغنج كله والصوت البغدادي الحلمي، الى الحنجرة الملائكية، الى الطفولة الابدية، أردتُ أنْ أتبغددَ معها، وتطوّحَ الحانات والمقاهي بروحي الظامئة أبداً، أردتُ أنْ ترتطم بقلبي كل الشوارع والنساء والنؤاسات التي كانت مضيئةً ذات يوم، أن أذهب الى العمر الذي كان هناك، فهي تسمعني الآن: عاشقين، والعمر غنوة وحمام وياسمين/ عاشقين، والصبر خضّر أمل، ورد وحنين/ ضحكت الدمعة بجفنها/ غسلت الفرحة دمعها/ كل صبح ويّه المحبّة معيدين.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

بالحوارِ أم بـ"قواتِ النخبة".. كيف تمنعُ بغدادُ الفصائلَ من تنفيذِ المخططِ الإسرائيلي؟

تحديات بيئية في بغداد بسبب انتشار النفايات

العراق بحاجة لتحسين بيئته الاستثمارية لجلب شركات عالمية

الكشف عن تورط شبكة بتجارة الأعضاء البشرية

مركز حقوقي: نسبة العنف الأسري على الفتيات 73 % والذكور 27 %

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: برلمان كولومبيا يسخر منا

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

العمودالثامن: في محبة فيروز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

العمودالثامن: في محبة فيروز

 علي حسين اسمحوا لي اليوم أن أترك هموم بلاد الرافدين التي تعيش مرحلة انتصار محمود المشهداني وعودته سالما غانما الى كرسي رئاسة البرلمان لكي يبدا تطبيق نظريته في " التفليش " ، وأخصص...
علي حسين

قناديل: (قطّة شرودنغر) وألاعيب الفنتازيا

 لطفية الدليمي العلمُ منطقة اشتغال مليئة بالسحر؛ لكن أيُّ سحر هذا؟ هو سحرٌ متسربلٌ بكناية إستعارية أو مجازية. نقول مثلاً عن قطعة بديعة من الكتابة البليغة (إنّها السحر الحلال). هكذا هو الأمر مع...
لطفية الدليمي

قناطر: أثرُ الطبيعة في حياة وشعر الخَصيبيِّين*

طالب عبد العزيز أنا مخلوق يحبُّ المطر بكل ما فيه، وأعشق الطبيعة حدَّ الجنون، لذا كانت الآلهةُ قد ترفقت بي يوم التاسع عشر من تشرين الثاني، لتكون مناسبة كتابة الورقة هذه هي الاجمل. أكتب...
طالب عبد العزيز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

إياد العنبر لم تتفق الطبقة الحاكمة مع الجمهور إلا بوجود خلل في نظام الحكم السياسي بالعراق الذي تشكل بعد 2003. لكن هذا الاتفاق لا يصمد كثيرا أمام التفاصيل، فالجمهور ينتقد السياسيين والأحزاب والانتخابات والبرلمان...
اياد العنبر
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram