TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناديل: عنوانُ عصرِنا

قناديل: عنوانُ عصرِنا

نشر في: 15 مايو, 2021: 09:27 م

 لطفية الدليمي

يصحُّ مع عصرنا هذا إطلاق توصيفات عديدة عليه ؛ لكنّ الشائع في دوائر النخب العالمية ومراكز صناعة الفكر والستراتيجيات والسياسات العالمية هو توصيف عصرنا بأنه عصرُ الأنساق المتعدّدة الشاملة.

المعرفة البشرية هي الأخرى صارت أقرب إلى صناعة تخليقية نَسَقية تتجاوز كلّ المحدوديات المعرفية التي شاعت في عصر ماقبل الثورة التقنية الرابعة، والتي أصبحت هي الأخرى تمهّدُ لمَقْدَم عصر الأنسنة الإنتقالية Transhumanism. هذان التوصيفان (الأنساق الفكرية الشاملة والمعرفة النسقية) يمتلكان قدراً من المشروعية والضرورة لايقلّان عن أهمية أي سؤال فلسفي يقع تحت لافتة (الأسئلة الكبرى) التي يقترن بها الوجود البشري ؛ إذ لن يختلف رأي كبار مفكّري وفلاسفة وعلماء العالم في توصيف عصرنا : إنّه التشبيك المعرفي والتداخل المفاهيمي بين الحقول المعرفية ضمن ماأصبح يُعرَفُ بنظرية التعقيد Complexity Theory.

ترتّبت على هذه المعرفة النسقية نتيجة ستراتيجية حاسمة هي أنّ القيمة المؤثرة لأي فرد (ومجتمعه بالنتيجة) لم تعُدْ تُحتَسَبُ بقدر مخزوناته المعرفية بل صارت قيمته تتمثّلُ في قدرته على تشبيك المعارف البشرية وايجاد (الانتظامات أو النماذج) الخفية السائدة فيها.

نشأ لديّ في العقد الأخير - بخاصة - شغف عظيم في متابعة تفاصيل هذه المعرفة النّسَقية بالقدر الذي أستطيع وتعينني عليه وسائلي وأدواتي من قراءة وتفكّر ومساءلات دقيقة. ليس الأمر مجرد شغف عقلي تحفّزه دافعية ذاتية ؛ بل صار أقرب لمساءلة (روح العصر Zeitgeist) - بحسب أدبيات الفكر الألماني - ومحاولة ملامسة تخومها ولو على صعيد الجهد الفردي الخالص.

تمتلك المعرفة النسقية (والأنساق المعرفية الشاملة بعامة) امتياز كونها قادرة على تحفيز الذائقة الفلسفية والعلمية لدى قطاعات واسعة من البشر الذين يتفكّرون بأمر عيشنا اليومي في هذا العالم ولايقتنعون بالتفسيرات البسيطة أو الناشئة عن تأثيرات البديهة الشعبية أو الآراء السائدة، وتساهم الطبيعة العابرة للمعرفة النسقية وكونها معرفة تشبيكية بين المعارف والخبرات البشرية في إضفاء أهمية متعاظمة على هذه المعرفة ودفعها إلى الحافات الأمامية المتقدمة من المعرفة البشرية الراهنة، يضافُ لهذه الحقيقة حقيقة أخرى تنشأ من دافع براغماتي مفادهُ أنّ طبيعة المنجزات التقنية الحاضرة صارت تتطلّبُ نمطاً من المعرفة الشعبية الشائعة التي ماعاد مقبولاً لها أن تنكفئ في جزرٍ متباعدة بل صار لزاماً مدّ جسور التواصل والتأثير بينها للإرتقاء بنوعية المنجزات التقنية الواعدة ؛ ولعلّ التطويرات الحديثة في الحاسوب الكمومي والتقنيات النانوية (تقنية المصغّرات) والفتوحات الحديثة في الذكاء الإصطناعي العام والتعلّم الآلاتي وعلم الأعصاب الإدراكي ليست سوى أمثلة لمصنّعات تقنية إستفادت من تطويرات حثيثة حصلت في ميادين معرفية ذات أنساق مشتبكة وعابرة للتخصصات الضيقة.

سعيتُ في هذه المقالة الموجزة (مثلما سعيتُ في مخطوطة كتابٍ جديد لي أكملتهُ قبل كتابة هذه المقالة، وخصصْتُهُ بعنوان " الحدود اللانهائية ") لبيان الأهمية الستراتيجية لاشاعة نمطٍ من الثقافة (الجماهيرية) التي تتعامل مع جبهات المعارف المشتبكة في سياق المعرفة النسقية، وملخّصُ هذه المعرفة أنّ التعامل مع الكائنات البيولوجية والحياة والكون باعتبارها أنساقاً دينامية معقّدة ومشتبكة هو القيمة المؤثرة والمنتجة لأية ثقافة نسعى إليها في عصرنا هذا، وسيكون إنكفاؤنا على ثقافات ضيقة ومنعزلة تمهيداً طبيعياً لخروجنا من معادلة القدرة على إعادة تشكيل مستقبلنا بعد أن غادرنا موضع القدرة على التأثير في إعادة تشكيل مستقبل العالم منذ أزمان بعيدة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق منارات

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: ماذا يريدون؟

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

العمود الثامن: صنع في العراق

 علي حسين اخبرنا الشيخ همام حمودي" مشكورا " ان العراقي يعيش حاله من الرفاهيه يلبس أرقى الملابس وعنده نقال ايفون وراتبه جيد جدآ ، فماذا يحتاج بعد كل هذه الرفاهية. وجميل أن تتزامن...
علي حسين

قناطر: في البصرة.. هذا الكعك من ذاك العجين

طالب عبد العزيز كل ما تتعرض له الحياة السياسية من هزات في العراق نتيجة حتمية لعملية خاطئة، لم تبن على وفق برامج وخطط العمل السياسي؛ بمفهومه المتعارف عليه في الدول الديمقراطية، كقواعد وأسس علمية....
طالب عبد العزيز

تشكيل الحكومة العراقية الجديدة.. من يكون رئيس الوزراء؟

إياد العنبر يخبرنا التراث الفكري الإسلامي بأن التنظير للسلطة السياسية يبدأ بسؤال مَن يحكم؟ وليس كيف يحكم؟ ولعلَّ تفسير ذلك يعود لسؤالٍ مأزومٍ في الفقه السياسي الإسلامي، إذ نجد أن مقالات الإسلاميين تبدأ بمناقشة...
اياد العنبر

هل الكاتب مرآةً كاشفة للحقيقة؟

عبد الكريم البليخ لم يكن الكاتب، في جوهره، مجرد ناسخ أو راوٍ، بل كان شاهداً. الشاهد على لحظةٍ تاريخية، على مأساةٍ إنسانية، على حلمٍ جماعي، وعلى جرحٍ فردي. والكاتب الحقيقي، عبر العصور، هو ذاك...
عبد الكريم البليخ
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram