 د. أحمد الزبيدي

كانت الحقيبة الدبلوماسية وربطة العنق كافيتين أن ترغما موظف الاستعلامات في دائرة الإذاعة والتلفزيون العراقية. قسم الأضابير . أن يقف احتراماً لي ومستفهماً ملامح وجهي في طلبي الجريء والبريء عن اضبارة الشاعر حسين مردان ، إذ كان موظفًا في تلك الدائرة وكانت آخر محطات حياته فيها ..

وكونه موضوع دراستي في الماجستير عام 1998م ( شعر حسين مردان . دراسة فنية بإشراف أستاذي الراحل الدكتور عبد الكريم راضي جعفر.. ارتبك الموظف وهو يمعن النظر في ( شاربي ) والحقيبة .. وبعد أن أغدقني بسيل من الترحاب للشارب والحقيبة وربطة العنق طبعاً . وبعد أن أنهى مراسيم السلام طلب مني الكتاب الرسمي المعنون للدائرة ؛ وحين أخبرته أني طالب !! ليس إلا غادرته بشاشة الوجه وانهال عليّ بسيل من التعنيف لجهلي بأهمية الدائرة وحساسية الطلب.. فالأضابير ليست للمراجعة الاعتيادية، وليست مطروحة في الطريق . بل أعرب عن تعاطفه معي بعدم الوشاية عليّ إلى أمن الدائرة، فاحترت في خلاصي من الموقف. حينها أطل علينا رجل من دون حقيبة دبلوماسية ولكن بكامل أناقته الرسمية وسيكاره المتشبث بأطراف أنامله.. إنه ( طالب القرغولي ) فأدرك آخر عبارات اللوم والتعنيف . ووجد نفسه مرغماً على التدخل وسألني عن مكان سكني ودراستي و( جهلي ) ومجرد أن أخبرته أنني طالب ( محافظات ) من واسط.. وأدرس في جامعة القادسية وموضوعي هو حسين مردان حتى التفت إلى الموظف : ما عساها أن تدخر إضبارة حسين مردان من أسرار ؟ هات الإضبارة إن كان فيها ما ينفعه ؛ فإن وجد فيها ما يفيده في دراسته ساعدته في الحصول على الموافقات الرسمية .. وبعد لحظات تأمل وتفكير صامت من قبل الموظف غار في الأضابير وإذا به يأتي بملف صغير ليس فيه سوى بضعة كتب إدارية تثبت تعيينه ومباشرته بتوقيع ( الصحاف ) و( شهادة وفاة ) بنسختين : أصلية ومستنسخة وبتوقيع رئيس مؤسسة مدينة الطب الدكتور نزار الشابندر .!!

ليست في الإضبارة قصيدة شعرية تضاف للديوان أو مقالة تنفع الدراسة ولست وريثاً له كي أنتفع من شهادة الوفاة . فخاب ظن طالب القروغولي وعادت بشاشة الانتصار على وجه الموظف ولكني ومن دون تفكير أو احتراز طلبت شهادة الوفاة وبعد نظرة استفهام منهما تلاحقت طلبي بأنها تفيدني في تدوينها وأنا أتحدث عن حياته ويوم وفاته وتكون شاهدًا إداريا ووثيقة رسمية على تأريخ الوفاة ( 4 / 10 / 1972 ) .. فلم يكن أمام القروغولي إلا أن يصدق كذبتي أو يجاملني بالصدق ويستمر في مساندتي بالموقف .. وبعد طلب ورفض واحتجاج بالموافقات الرسمية غادرتهما بتحيتين : إسقاط فرض للموظف وتجسيد شكر وامتنان للكبير طالب القروغولي .. وما أن وطأت قدماي سلم الدائرة حتى ناداني طالب : تعال يابني تعال فرجعت وقلبي يركض قدامي فاستقرت يده اليمنى على كتفي وقال : لقد اقنعت الموظف بأن يعطيك الشهادة لتصويرها وبكفالتي ورهنت ( هويتي ) ضمانا لعودتك بالوثيقة! ولم يكتف بالرهينة بل همس في أذني متسائلا عما إذا كانت نقودي تكفيني .. ثم منحني الكنز الرهين ودلّني على مكتب استنساخ صغير قرب ساحة الملك فيصل.. فذهبت مسرعاً فرحا متأبطاً آخر وثائق حسين مردان .. ويا للأسف ففي لحظة وصولي للمكتب انقطع التيار الكهربائي فانتظرت وانتظرت وبعد برهة من الوقت لا يدرك حجمها إلا من لوّعه انتظار مجيء الكهرباء مرت سيارة ( سوبر ) وفيها رجل تلتفت عيناه على المحلات تبحث عن شيء ما .. إنه طالب القروغولي وخمنت أنه يبحث عني فجئته مسرعًا : نعم أستاذ هذا أنا .. أنا هنا فقال هل استنسختها ؟ لا والله فالكهرباء مقطوعة .. فابتسم بعد أن التفت يميناً وشمالاً فقال : خذها لك عسى أن تنفعك !! وها هي الشاهدة موجودة في مكتبتي كشاهد على طالب القروغولي ( مشرفاً ) على الدراسة... وعلى طالب المحافظات .