طالب عبد العزيز
يتغذى الفردُ في المجتمعات المنقسمة على ما تقدمه له الانقاساماتُ تلك، من مؤونة وزاد على حساب الزاد الوطني الجامع، زاد الجغرافيا أو التاريخ المشترك، ففي تمزق الهوية الجامعة يكون الفرد قد ذهب بكليته الى هويتة الضيّقة(الدين، الطائفة، العرق) في اعتقاد منه بأنها تؤمّن الحماية المطلقة له،
وقد يكون المنطق هذا واقعاً، لكنه غير مأمون الجانب في النهاية، فمثل الهويات هذه من تعمل على تأسيس البغضاء والعداوات، ولعل صورة العراقي بعد 2003 غير صورته السابقة، على الرغم مما بذرته الحكومات السابقة، ونظام صدام حسين بشكل خاص من بذور الانقسامات (إقصاء الشيعة من المناصب العليا في العهد العثماني والملكي، والتركيز على كبار الضباط السنّة في الحرب مع إيران) كأمثلة على ذلك.
الى اليوم كنتُ وما زلتُ أمنّي نفسي بأنْ أسمع من خطيب حسيني حديثاً متوازنا، ومنصفاً عن أحد علماء المعتزلة، أو الخوارج، أو المتصوفة، أو أحد الصحابة وسواهم، ممن نقرأ عن سيرهم الحسنة، وبالغة الحسن في بعض الأحيان الكثير والكثير، وفي مقابل ذلك يندر ما نسمع من خطباء أهل السنّة في صلاة الجمعات ما يشير الى فضائل علماء وأئمة الشيعة، والمتصوفة والمعتزلة وغيرهم. لا يمكن تصور رجالات جماعة معينة بأنها الأفضل في كل شيء، مثلما لا يمكن تصور رجالات الجماعة الاخرى بانهم الأسوأ، ففي ذلك مجانبة للحق، ومخالفة للعقل، الفروسية تقتضي الإنصاف، وقول الصواب، وذكر المحاسن وتجاوز الأخطاء.
لا أحد ممن قرأ بحيادية التاريخ العربي الاسلامي يغفل الاعتقاد والعقيدة الراسخة عند الخوارج، والصورة المثالية لعبادتهم، فهم باعتراف كبار علماء المذهبَين(السنة والشيعة) موحّدون، يقرون بالنبّوة كاملة، وهم حفظة وقرّاء استثنائيون للقرآن، وعبّاد منقطعون ومخلصون، وأصحاب حجج راسخة، لكنَّ تقاطع سيوفهم مع سيوف المسلمين، وحادثة مقتل الامام علي، وحروبه معهم جعلتهم خارج دائرة التناول المعرفي والحوار الهادئ معهم، إلا بالسوء وهو أمر فيه ما فيه من الخسارة، وأضاع على الجميع تذكر الكثير من رجالهم، من الذين لم يحاربوا، ولم يسلوا سيفاً إنما احتفظوا بآرائهم، معتمدين القرآن والسنة، وربما كانوا سيضيفون لثقافتنا شيئاً، لو أنهم منحوا الفرصة في الحوار.
بسبب السيوف والتعصب المطلق وكراهية الآخر أهملنا الإشارة الى الكثير من الالتماعات في تاريخنا العربي والاسلامي. أتوقف عن كلمة مالك بن دينار عندما وصفه أحدهم بالزاهد فقال: لا، لستُ أنا. الزاهد عمر بن عبد العزيز، فقد وهب الدنيا وتركها. في مجموع الخطب التي نسمعها من مكبرات الصوت المنصوبة على المنائر قلما سمعنا شيئاً عن فضائل ومآثر علماء التصوف، والاعتزال والفرق الاخرى، أو عن علماء اللغة والنحو والشعر والكيمياء والعلوم الاخرى، فقد ظلوا أسارى قناعاتهم الخاصة بمذهبهم، وطريقة عبادتهم، واصحابهم وشيوخهم، وكأن الآخرين لم يولدوا ولم يكونوا، ولم يقدّموا شيئاً ذا أهمية تذكر، وبذلك ضيقوا علينا في فسحة التسامح والحوار وذهبوا بنا الى دائرة الانغلاق وبغضاء الآخر المختلف.