طالب عبد العزيز
باردةً، وبلا قسمات واضحة، تُرسل الكاميرا، وعبر الشاشة الضوئية صورةَ القاتل الوحيد، لكنَّ الملامح تختفي فجأة، بفعل الألوان التي تتداخل في تواريها، مع الخلفية، التي اعتمدها مخرج الصورة، فيما تبدو كتلة اللحم الهائلة المحشوة بالبذلة العسكرية، من الأمام، هي غيرها من الخلف.
الكتفان العريضان، والرقبة الممتلئة، واستدارة الاصابع على الهاتف الغريب، ذي الازرار السود، والخطى الوئيدة لحامله، المتابَعَة بعشرات الوجوه، والانتشار غير المنظم للعجلات، في الساحة الواسعة، وأشياء أخر ظلت تلتئم متعجلة، تشير وتومئ، داخل المشهد الذي حاولت الكاميرا التكتم عليه. ثمة ما يغرينا بالسؤال، وما إذا كانت الصورة قد أفلحت في تبرير شيء ما.
لكنَّ صورة القاتل لا تصمدُ في ابتسامة مرتبكة، هي تتضخم في الفراغ المحيط، حيث تُرصَدُ، الوجوه بأعين كاميرات متعددة، نصبها مجهولون في محيط آخرمجاور، الهواتف غير المسماة، واللامنظورة في أيدي البعض، ممن أفرغتهم العجلات ترنُّ، وترنُّ طويلاً، هناك من يسأل وهناك من يجيب، لكنَّ الأصوات بعيدة، تعبر الحدود الى الشرق، وتأتي منه، تدّعي وتبرر، فيما الكفُّ الغليظة، متساوية الأصابع، بالكُمِّ المغلقة على الرسغ بإحكام، ما زالت توميء وتشير، في تهيئةٍ لقول شيء ما أكثر وضوحاً، لكنَّ الحزام المرصص بالخراطيش، المفضوح بالتنمر، والمزعوم بالبطولة، راح يُفقدُ صاحبَه شكله الآدمي، يحطُّ من صورة الانسان فيه، حيث لا ترفدُ قافلةُ الوجوه المحيطة صورةَ القاتل استقامة ما، وبدا أن الجميع فقدوا انتماءهم له، في يقين قاطع بانه سيظل شائهاً، وقد فشلت الكاميرا بترميم ما تساقط من ملامحه، في المحيط الذي أفرد وحيداً له.
تتشوّه صورة القاتل أكثر ساعة يستجمع غرائزه على طاولة الطعام مثلاً، أو في لحظة خلوته مع امرأة، وهناك أكثر من صورة مفترضة تزيده قبحاً، حيث لا تقوى القسمات على اخفاء ما يضمره القلب المتوحش، فهو ينزع اللحم من العظم بتعرٍ قبيح لذاته، أو وهو يكوره بقبضته، بغية التهامه، فيلتصق النزوع الطبيعي الكامن بعين الكاميرا، صورة الدم الممهور بالصلف والفوقية، والمستقدمَة عنوة بالسلاح والجماعة المحيطة تمنح ملامح القاتل وحشية أكثر، تزيده قبحاً، فهي تتمظهر حتى في الأفعال التقليدية، التي يمارسها الإنسان، وإن تدرب على اخفائها طويلاً، وهنا قد لا تضيف نشراتُ الاخبار والتعليقات أو الاستنتاجات لصورته القاتلة شيئاً، فهي تشي بتمام ما قام به، لذا، لن نكون بحاجة الى شريط النيجاتيف، المظنون به في كاميرات المنازل أو الاسواق، والتي يستعصي على المحقق الإتيان به، أحياناً.
يحتفل القاتل بانتصاراته على طريقته العراقية، التي اعتادها أمام الكاميرا، وفي الساحات القبلية، متبختراً، ومنتبِذاً مكاناً ليس ببعيد عن عجلات حاشيته المحيطة، مفتّحة الأبواب، ومصوبة البنادق، حاملاً هاتفه غير المسمّى، بأزراره السود، فالنصر عنده صورةٌ قوامها الظهور والاختفاء، ولا تُقوّمُ إلا بالدم البريء، إلا بالطعنة الغادرة، إلا بالطلقة الصامتة.... ومنذ أنْ أصبح على ما امسى عليه ظلت الجماعة المحيطة به تعرض بضاعته على الهواء، يقينها بأنَّ صناعة النصر تتطلب تزييفاً آخر في الصورة، ومن البطولة أنْ تظل ممسكاً بالبندقية الى الأخير، ومنها أن عليك الاحتفاظ بها، والى الأبد، وأميناً على كرسيك وإن غصت قوادمه بالدم، وإنْ استحال التزييف في الصورة ضرباً من التفاهة على الشاشة.