TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناديل: بلادي وإن جارت ..... !

قناديل: بلادي وإن جارت ..... !

نشر في: 29 مايو, 2021: 09:48 م

 لطفية الدليمي

أخبرتني صديقة لي زارت ألمانيا قبل بضع سنوات أنها كانت جالسة صبيحة أحد الأيام المشرقة في مقهى برليني مع صديقة لها ، وبينما هما منهمكتان في حديث مشترك لاحظتا صبية ألمانية تتوهّجُ نشاطاً وحيوية تمشي واثقة مسرعة نحو بعض شؤونها ،

ثمّ بطّأت حركتها حتى توقفت واستدارت ، ثمّ توجّهت نحو صورة معلّقة على أحد الحيطان كان طرفها الجانبي قد انفصل عن الصورة وتهدّل نحو الأسفل ، تكمل صديقتي حكايتها فتقول: مضينا نراقب الفتاة ؛ فرأيناها تتطلّعُ في الصورة ملياً وتفكّرُ ماعساها فاعلة معها ، ثمّ أخرجت قطعة لبان كانت تمضغها في فمها وألصقتها على جانب الصورة السفلي ، ثمّ أعادت تثبيت الصورة على الحائط بعد أن تأكّدت من تطابق الحافات المتقابلة مع بعضها .

هل يمكنُ أن يحصل هذا الأمرُ في بلدنا ؟ لستُ في وضعٍ يتيحُ لي اليقين بأنه لن يحصل ؛ فلاالنزاهة ولاالمروءة تقبلُ هذا الحكم اليقيني القاطع ؛ لكن يمكنُ أن نقول بضمير مرتاح إنّ إحتمالية حدوثه تكاد تتضاءلُ إلى حد غير قابل للمقارنة مع حالة الفتاة البرلينية ، النظائر القياسية قد تنفع في هذا الشأن : من يقبلُ أن يعيش وسط تلوث بصري وبيئي لايليق بأدنى استحقاقات الحياة البشرية لن نظنّه يفكّرُ في أمر تثبيت صورة على حائط في أحد شوارع بغداد أو العراق .

لماذا فعلت هذه الفتاة مافعلت ؟ هل كان والداها ومعلّموها في المدرسة ومعظم من التقتهم في حياتها يردّدون عباراتٍ على شاكلة :

بلادي وإن جارت عليّ عزيزةٌ وقومي وإن شحّوا عليّ كرامُ

لا ، لم يحصل شيء من هذا ، تعلّمت الفتاة منذ صغرها أنّ ألمانيا أكبر من حكومة أو رئيس وزراء أو وزير ، وأنّ حقوقها على الحكومة لها ذاتُ العلوية التي يجب أن تثعامل بها واجباتها تجاه ألمانيا ، ألمانيا هنا ليست مكافِئاً للحكومة الألمانية بل هي شيء أكبر منها ، وعندما ساهمت الفتاة في تجميل وضع الصورة فكأنها ساهمت في تجميل صورة ألمانيا وليس صورة الحكومة الألمانية ، ألمانيا تعني بالنسبة لها رمزاً كبيراً ماثلاً على الأرض ، وعندما ترتقي صورة هذا الرمز فهذا يعني بالضرورة إرتقاءً مماثلاً في الحياة الطيبة للألمان ، ألمانيا إذن رمز + منظومة قوانين عملية تحدّد شكل ثنائية ( الحقوق / الواجبات ) التي تحكمُ العلاقة بين الألماني ومجتمعه ، هذا هو حال ألمانيا ، وهو يصحُّ مع أغلب بلدان العالم المتقدّمة .

إذا شئنا المقارنة مع المثال الألماني فإنّ حكوماتنا تستطيب إعلاء شأن الرمزيات وكبح الجانب الحقوقي في علاقتها مع مواطنيها ، وحتى أمثولاتنا الرمزية الوطنية لاتكاد تغادر مثال التضحية المضمّخة بالدم من أجل الوطن ، وكأنّ العراقي ماخُلِق إلا ليموت من أجل وطن يترصده الأعداء طول الوقت ، الحكومة تسترخي لخطاب الرمزيات الفلكلورية لأنه يخفف من شأن التزاماتها المستحقة تجاه الافراد ، ويعلي شأن النبرة الحماسية التي تترافق مع خفوت المساءلة المعقلنة للحكومة ، كنّا نسمعُ في عهود سابقة أنّ القانون يجبُ أن يضمن الموازنة بين الحقوق والواجبات على أن تميل الكفة صوب الواجبات عند حالات الطوارئ . هل كانت حياة العراقيين شيئاً غير حالة طوارئ ممتدّة ؟

يجبُ أن نرتقي – كعراقيين – بفهمنا السياسي والثقافي لكي يكون لحقوقنا مشروعية مقدّسة تتوازن مع واجباتنا تجاه بلدنا ، وليس من ضرورة لبلاد تجور علينا أو قوم يشحّون علينا .

آن أوان حضور القانون وتراجع العصبيات الفلكلورية التي ماعرفت كيف تنظّفُ شارع الرشيد من تلال القمامة المتكدّسة فيه .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. عدي باش

    شوارعنا (تحتفي) بصور شخصيات دينية أو سياسية سئمت الناس من نفاقها ، لذلك لا يهتم أحد بشأنها !!

ملحق منارات

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: ماذا يريدون؟

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

العمود الثامن: صنع في العراق

 علي حسين اخبرنا الشيخ همام حمودي" مشكورا " ان العراقي يعيش حاله من الرفاهيه يلبس أرقى الملابس وعنده نقال ايفون وراتبه جيد جدآ ، فماذا يحتاج بعد كل هذه الرفاهية. وجميل أن تتزامن...
علي حسين

قناطر: في البصرة.. هذا الكعك من ذاك العجين

طالب عبد العزيز كل ما تتعرض له الحياة السياسية من هزات في العراق نتيجة حتمية لعملية خاطئة، لم تبن على وفق برامج وخطط العمل السياسي؛ بمفهومه المتعارف عليه في الدول الديمقراطية، كقواعد وأسس علمية....
طالب عبد العزيز

تشكيل الحكومة العراقية الجديدة.. من يكون رئيس الوزراء؟

إياد العنبر يخبرنا التراث الفكري الإسلامي بأن التنظير للسلطة السياسية يبدأ بسؤال مَن يحكم؟ وليس كيف يحكم؟ ولعلَّ تفسير ذلك يعود لسؤالٍ مأزومٍ في الفقه السياسي الإسلامي، إذ نجد أن مقالات الإسلاميين تبدأ بمناقشة...
اياد العنبر

هل الكاتب مرآةً كاشفة للحقيقة؟

عبد الكريم البليخ لم يكن الكاتب، في جوهره، مجرد ناسخ أو راوٍ، بل كان شاهداً. الشاهد على لحظةٍ تاريخية، على مأساةٍ إنسانية، على حلمٍ جماعي، وعلى جرحٍ فردي. والكاتب الحقيقي، عبر العصور، هو ذاك...
عبد الكريم البليخ
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram