حيدر المحسن
خُلقتُ من أجل أن أكون شاعراً/ ولا شيء غير ذلك. لا شيء على الإطلاق/ لم أكن أعرف شيئا لأفعله. شاعرا بالخجل أكثر/ لأني غير قادر –فضلا على ذلك– أن أقوم بتغيير قدري
القصيدة للشاعر البولندي تشيسواف ميووش (نوبل 1980) وفيها وصف لعزلة الشاعر واختلافه غير المجدي عن البقية، بالإضافة إلى خجله من قدره، وهذا هو الأهمّ، ثم يرسم ميووش في الأخير صورة كاريكاتيرية لمن شاء سوء حظه أن يبتليه بهذا المصير:
ولكن عدا كل شيء،/ لِمَ لا يكون الأمر على هذا النحو؟/ ففي اختلاف البشر تغيّرٌ وتنوّعٌ/ هو أيضا مطلوب. فلنقم بزيارة الشاعر/ في بيته الصغير والمتواضع،/ حيث يربّي الأرانب، ويعدّ الفودكا مع الأعشاب الطبية،/ ويسجل على الشريط أشعارا سحرية.
الشاعر هنا مثل شيء مقلوب على نفسه، مريض يعاني الوحده، ويرى نفسه نبياً لا يؤمن به أحد، بينما ينظر كافافيس إلى الشاعر على أنه شخص متفوق على الجميع. في قصيدة «الخطوة الأولى» يصف شاعرا يشكو أمره إلى ثيوكريتوس (210-240 ق. م):
«إنني أكتب منذ عامين / ولم أتمّ إلا قصيدة رعوية بسيطة / وهي عملي الوحيد المتقن / واحسرتاه، أرى سلّم الشعر عاليا / عاليا جدا / ومن الدرجة الأولى حيث أقف الآن / لن أصعد أبدا”.
الشكوى هنا حقيقية، وفيها كبرياء واعية، لكن الإرادة في اختيار الفن هي الفيصل، والنزعة الخلّاقة سوف تقود الفنان حتما إلى المرتبة الأعلى. يقول ثيوكريتوس للشاعر:
«هذا الكلام تجديف، وغير لائق / فحتى لو كنت في الخطوة الأولى / عليك أن تفخر بذلك وتسعد / فليس بالقليل أنك وصلت إلى هنا / والذي أنجزت هو لك شرف كبير”.
ثم يشرح له الأسس التي يقوم عليها الشرف الكبير:
«وكي تطأ قدمك ذاك الدرج / عليك أن تكون / ولك الحق في أن تكون / مواطنا في مدينة المثل».
هنا تبلغ سخرية كافافيس من الأسماء اللامعة في اليونان القديمة أقصاها، فالمعروف أنه لم يذكر أيّ من الفلاسفة أو الشعراء المشهورين، فلا نجد في شعره ذكرا لسقراط وأرسطو أو هوميروس، وكأنه كان يروم بناء أسطورته الخاصة بعصره بعيداً عن تلك التي أشادها القدماء، وهذا مظهر آخر من مشاهد الحداثة في شعر كافافيس، وفي اشتراطه على الشاعر أن يكون مواطنا في مدينة المثل تذكير بالعمل الغريب الذي جاء به أفلاطون عندما طرد الشعراء من مدينته الفاضلة، يجعل كافافيس بالمقابل مدينته سكنا للشعراء، للشعراء دون البقية:
«ومن الصعب في تلك المدينة / بل ومن النادر أيضا أن يقبلوك مواطنا / فمجالسها مزدحمة بالمشرّعين / الذين ليس بإمكان أفّاق أن يخدعهم”.
في قصيدة أخرى نقرأ عن شخص غريب يأتي إلى أنطاكيا من أجل إكمال كتابه الشعريّ. يظلّ يكتب ويكتب، ثم يصيبه الإرهاق، وتثقل عليه الكآبة:
«لكن خاطرة تخرجه فجأة من اكتئابه: جملة “ها هوذا الرجل!”/ التي سمعها لوقيانوس في منامه
لوقيانوس شاعر إغريقيّ مغمور يرى في الحلم من يخبره أنه ليس شخصا مجهولا حتى لو سافر إلى خارج البلاد، لأن صنعة الشعر تنقش عليه علامات تجعل كل من يراه يلكز رفيقه، ويشير إليه بإصبعه قائلا: ها هوذا الرجل.
ما الذي منح كافافيس القدرة على تقديم الشاعر بهذه الصورة البطولية؟ إنهم (المشرّعون) -النقّاد؟- الذين ينظرون إلى الشاعر نظرة فريدة، ولا تفوتهم ولا أدنى هنة يلتاث بها فنّه، وتكون مبررا لعدم قبول صاحبها في مدينة كافافيس العظيمة.
على الرغم من التناقض بين صورة الشاعر لدى كافافيس وميووش، يتفق الاثنان على أنه شخص مختلف عن بقية الناس، مهنته صناعة السحر القويّ والفاعل بواسطة الالغاز وأحابيل الكلمات. أليست القصائد أرانب تمشي وتتراكض وتتقافز بيننا؟