طالب عبد العزيز
مع ندرة لحظات السرور، ومع نفورنا من قِرديّة ما يتقافزُ على صفحاتنا الزرق، أحياناً، إلا أنَّ آيات الجمال لا بد آتية، ودروب الصدق والمحبّة ما زالت آهلة بسالكيها الكبار... فقد تسلمتُ يوم أمس من دار الرافدين –بيروت –بغداد نسخاً من كتابي الشعري الاخير( سريرُها ومايليه) الكتاب، الذي أنجزتْ خطوطه الداخلية وزيّنتْ غلافَه يدُ الفنان الكبير ضياء العزاوي، بسعي باهر، وروح سخيّة، كريمة من الكاتبة والمترجمة مي مظفر، التي كانت رسول الجمال بين عمّان ولندن والبصرة، فجاء كما أردت، وتمنيت له.
وهنا، أشعرُ بأهمية الحديث عن الشعر وتحولاته، ليس في تجربتي إنما بشكل عام، ذلك لأننا نعيش أزمته بوضوح، بعد أن فقد بريقه، الذي كان عليه قبل عقود، إثر مزاحمة الاشكال التعبيرية الاخرى له- الرواية بشكل خاص- وباختصار، اشعر بأنَّ الازمة في الشعر مقروءاً إنما تكمن في الشكل، فقد بات شكل القصيدة التقليدي( عموده والتفعلية منه) في الكتاب الشعري طارداً للعين، ولعل ثلاثة أرباع القرن، بحساب أنَّ تاريخ كتابة قصيدة السيّاب(هل كان حبّاً يعود لسنة 1946) كانت كافية للبحث عن شكل بَصَرِيٍّ آخر، مع يقيننا بأهمية محاولات التجديد العديدة، التي توالت. نشير الى تجارب شعرية عراقية وعربية، ليس أولها فاضل العزاوي(أسفار) ولا حسب الشيخ جعفر في (ثلاثيته) الشهيرة ولا أدونيس وأنسي الحاج وبول شاؤول وبركات وغيرهم.
قد لا يكون الشاعر معنياً، بما يقرأ للآخرين المجدّدين، الذي فتحوا الآفاق عريضةً، ذلك لأنه سينظر الى ما قاموا به بوصفه تجربة شخصية، هي ملكهم وخاصتهم، إلا أنَّ شكل القصيدة عنده سيظل مصدر قلقه، ويملك الحق كله في إيجاد خريطته هو، لا ما أنجزه هؤلاء، ولعل نزوع السياب وجيل الرواد الى إعتماد الشكل الجديد(القصيدة الحرة) كان دافعهم الاول، حيث وجدوا أنَّ الشكل القديم لم يعد يلبّي حاجة العين القارئة، وأنَّ مساحة كبيرة للنفور منه، والتخلص منه أيضاً، لذا كانت الاستجابة للأنموذج الجديد سمة عصر بأكمله، الامر الذي انسحب على فنون الكتابة الاخرى وحركة التشكيل والرسم أيضاً.
منقاداً الى البحث عن شكل جديد، كنتُ قد كتبتُ في العام 1984 قصيدتين( تاريخ الاسى، العشاء الاخير) متجاوزاً شكل قصيدة التفعلية التقلدي، فقد ملأتُ السطر على الورقة، بالتمام، ولم أخفِ ترددي بإظهار ما كتبتُ للاصدقاء آنذاك، ذلك، لأنَّ البعض منهم عابه عليّ، فيما نصحني أكثر من صديق بتجنب الشكل هذا، لأنه كان يرى فيه مخالفة لقواعد كتابة الشعر، الذي هو خاصة النثر لا غيره. في كتبي الثلاثة الاخيرة( كتاب أبي الخصيب)و(من الفندق الى الحانة) و(سريرها ومايليه) ربما أكون قد اهتديت الى الشكل الذي أردت، فقد ذهبتُ الى تضييق المسافة بين الشعر والسرد، لقناعتي بأنَّ قراءة الشعر لم تعد مثلما كانت عليه، قبل ثلاثة أرباع القرن. كما أنَّ تزيين الكتاب، أيَّ كتاب برسوم وخطوط وألوان ستسهم بتخفيف التعب الناتج عن القراءة. العين بحاجة الى استرخاء أكثر، هي المرهقة باعباء ما يحيطها.