TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > كلامٌ عاديٌّ جداً: الباب المواربة

كلامٌ عاديٌّ جداً: الباب المواربة

نشر في: 8 يونيو, 2021: 10:03 م

 حيدر المحسن

يطلب القارئ من الشاعر أن تكون قصائده صافية ومهيبة وقوية، وليس لديه غير هذا الشرط. لا يهمّ إن كانت معاشرة الشاعر للقصيد في أوقات الفراغ والعمل، أو في أثناء العزلة الشديدة، أو أن عفريت الشعر يراود صاحبه في المنام:

حين أنام/ يعود الغائبون أطفالاً، بدشاديش مقلّمة/ ترتفع بهم الأراجيحُ عالياً، عالياً/ وتعود فارغة.

الحياة ليست حلم ملاك، بل هي واقع بشر. يتعامل معتز رشدي في ديوانه الجديد مع القارئ بطريقة الباب المواربة، فهي مفتوحة ومغلقة، والمشاهد التي نراها مرسومة بطريقة تعني الشيء ونقيضه، وكأن التشوّش في الحواس ينتقل بطريقة مقصودة من الشاعر إلى القارئ؛ المراجيح تحمل الأهل والأقارب والأصدقاء، ترتفع في الهواء، لكنها تعود فارغة. المشهد مقسوم في منتصفه، وثمة لوحتان إحداهما بالأسود والثانية باللون الآخر. يقول الشاعر عن نفسه في قصيدة عنوانها “أنا”:

«عودُ ثقاب مشتعلٌ / في يدٍ ترتعش/ يضيء وجوهكم / تجاعيدها، والمخاوف”

الشاعر جريح في ضلعه، وفي جناحه، والضوء والظلمة يتوزّعان في القصيدة بالتساوي، وهي مهارة الشاعر التي تجعله ينقل بصر القارئ إلى بصيرة عن طريق فتح الباب أمامه إلى النصف، أو أقلّ من ذلك. الرعشة في يد الشاعر تضيء لنا من الوجه هموم العمر، والقلق الذي لا ينتهي، وتعتم الرؤية عن أشياء لا نراها ولا تقولها القصيدة، لكنها مفهومة للقارئ وينظرها بعين لا تخطئ الشيء، فالتجاعيد ترتفع بالمخاوف إلى أقصاها، وهذه تشتدّ مع خبرة العمر؛ الحزن الذي يعتصر وجه الكهل أو الشيخ أكثر من حقيقيّ، لأنه شفاف وقاس ومكتمل، وكذلك الخوف.

يحمل الديوان عنوانا غريبا هو: “الكحول.. يا حصاني الهرم”، وبواسطة الخمرة تصلنا الموجودات كلّها، ألوانها، وأشكالها، والعطور، والرؤية هنا ليست لسكّير غرق في بحر الخمرة فهو ينظر في الأعماق، بل إن طريقة عيش الشاعر الواعية أعطته القدرة على مراقبة الأشياء بواسطة ذهن يعي كل تفصيلة:

«قولوا لحصاني أن يتعقّل/ لفارسه أن يكفّ عن محاكاة الستائر في الريح/ قولوا لهما شيئا يُعيد الكحول إلى الزجاجة/ وشاربها إلى رشده»

يُقال إن الندم توبة، وفي قصيدة أخرى نجد ما هو أعلى من هذه التوبة، فالشاعر يناجي ربّه مثل صوفيّ يحيا بين الصخور عيشة المتبتّل:

«إلهي: لا أجد من أحدّثه سواك/ وأنت ترى عزلتي/ عزلة العُشّ/ في غابة تحترق»

الشاعر لم يكن جنديا وفيا للخمرة التي شملت عنوان الديوان كله، ووجود السلاف لم يعط القصائد جوّ التشتّت والغموض الرديء والهلوسة التي عُرف بها من يكتبون تحت تأثير مبضع السكر الشديد. شعرُ معتز فيه نعومة وعذوبة، رغم الشدّة النفسية التي لازمت الشاعر في محنته، وهو يرسمها لوحات، ويعرضها على الملأ:

«من قلوبنا تتدلّى خيوط عناكب / إلى أعماقنا نُصغي../ إصغاءَ بيتٍ إلى زلزال”.

هنالك مفردات شائعة الاستعمال بين الناس، مثل السعادة والتعاسة، والجحيم والنعيم، والذروة والهوّة، وغيرها من كلمات لا تحمل ذات المعنى لدى الشاعر، فهو يوثّق اللحظات مثلما هي، وهمّه الوحيد أن تكون اللوحة فيها حسن وجمال غادة، فالمشهد الذي انتهى منه ربما كان يصوّر أعلى منارة جامع في بغداد، أو قاع ساقية في زقاق في مدينة (الثورة) الفقيرة، حيث كانت حياة الشاعر، قبل منفاه الكنديّ الثلجيّ المظلم.

للكاتب الألماني هنريش بول قول أستعيره هنا: “تعلمت من الطريق إلى المدرسة أكثر مما تعلمته من المدرسة”. ديوان معتز رشدي الصادر عن منشورات الإتحاد العام لأدباء العراق هذا العام، كُتبت قصائده بينما كان الشاعر في طريقه إلى الخمرة، قبل أن تسدل هذه الستار على العالم.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق منارات

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: ماذا يريدون؟

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

العمود الثامن: صنع في العراق

 علي حسين اخبرنا الشيخ همام حمودي" مشكورا " ان العراقي يعيش حاله من الرفاهيه يلبس أرقى الملابس وعنده نقال ايفون وراتبه جيد جدآ ، فماذا يحتاج بعد كل هذه الرفاهية. وجميل أن تتزامن...
علي حسين

قناطر: في البصرة.. هذا الكعك من ذاك العجين

طالب عبد العزيز كل ما تتعرض له الحياة السياسية من هزات في العراق نتيجة حتمية لعملية خاطئة، لم تبن على وفق برامج وخطط العمل السياسي؛ بمفهومه المتعارف عليه في الدول الديمقراطية، كقواعد وأسس علمية....
طالب عبد العزيز

تشكيل الحكومة العراقية الجديدة.. من يكون رئيس الوزراء؟

إياد العنبر يخبرنا التراث الفكري الإسلامي بأن التنظير للسلطة السياسية يبدأ بسؤال مَن يحكم؟ وليس كيف يحكم؟ ولعلَّ تفسير ذلك يعود لسؤالٍ مأزومٍ في الفقه السياسي الإسلامي، إذ نجد أن مقالات الإسلاميين تبدأ بمناقشة...
اياد العنبر

هل الكاتب مرآةً كاشفة للحقيقة؟

عبد الكريم البليخ لم يكن الكاتب، في جوهره، مجرد ناسخ أو راوٍ، بل كان شاهداً. الشاهد على لحظةٍ تاريخية، على مأساةٍ إنسانية، على حلمٍ جماعي، وعلى جرحٍ فردي. والكاتب الحقيقي، عبر العصور، هو ذاك...
عبد الكريم البليخ
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram