حيدر المحسن
تندّر أحدنا على مؤلف وضع على غلاف كتابه عبارة «الطبعة الأولى» بالقول إن التعبير الصحيح هو»الطبعة الأولى والأخيرة». عدا عن الرقم المتواضع «500 - 1000» الذي تنتشر به المؤلفات الأدبية في العالم العربي، لا يبلغ عدد مرّات طبع الكتاب الرقم خمسة إلا فيما ندر؛ مؤلفات علي الوردي، مجموعة السيّاب الكاملة، وبعض أعمال فؤاد التكرلي، ولا شيء غير ذلك.
ومن المعروف والشائع في العالم أن هذا الرقم يمثّل نجاحا فاشلا للكاتب، يستطيع عن طريقه الدخول في النقاش مع أصحاب دور النشر غير الشهيرة لغرض ترجمة أعماله، والحديث حول إمكانية إصدار مؤلف جديد له. أما المؤسسات العتيدة في عالم الكتاب فهي التي تضع عقودها مع المؤلفين الذين تجاوزت أعمالهم الطبعة الخامسة، حصراً...
يحسب البعض تأليف الكتب تحريرا ذاتيا من لا مبالاة المجتمع لهم، فهم مستعدّون لشراء الشهرة بالنفيس أو بالنزير من ممتلكاتهم، بل إن هناك من يرتضي أن يرمي حياته وعائلته في المرحاض في سبيل تحقيق ذلك. تنتهي المراهقة الفكرية عادة في الأربعين، وتدوم لدى البعض إلى ما بعد سنّ الخمسين، وقد لا تنقطع إلا في الدار الأخيرة.
كل شيء مقدر له أن يصبح ما هو في الواقع، لكن هذا الأمر لا يصحّ في زماننا. فبدلا من تشجيع الإبداع تربك أغلب الجوائز الأدبية الممنوحة في عالمنا العربي كلّ شيء، وتجعل مناخنا الفكري مثل مستنقع لا يعيش فيه غير العفن الذي يختصّ بتسميم الهواء. تخيّلوا معي لو أن أحد المراهقين في فكره حصل على جائزة يعدّها الجميع مرموقة، كيف تكون النتيجة؟
في كل حقبة من السنين تكون الحظوة لكاتب واحد أو اثنين، ونادرا ما يتجاوز الرقم هذا العدد، وترمى أعمال العشرات أو المئات الذين لا يعرفون ماهيّة المستقبل في البحر. سُئل تاجر سجّاد شهير عن سرّ تفوّقه، فأجاب بأنه يضع نفسه عندما يبيع في مكان الشخص الذي يشتري، أي إنه يفكّر بما يريد هذا، وكيف ينظر، ويحسب. ولأن الكتاب سلعة تُباع وتشترى في السوق، فإن نصيحة التاجر تصحّ حتما بيننا نحن تجّار الحبر والورق. في خمسينات القرن الماضي عيّر أحد المفكرين الماركسيين علي الوردي لأنه يتعامل مع أمور المجتمع في تأليفه الكتب مثل تاجر، وأجابه الوردي بعبارته الشهيرة:
«نعم أنا تاجر، وتاجر بطّيخ!».
هنالك مدرسة أمريكية في النقد تهتمّ بالكتب الأدبية التي يُعاد إصدارها بعد مرور خمسين عام من تاريخ طبعتها الأولى. يلزمنا نصف قرن لحرق هالات الشهرة الكاذبة والمصنوعة، ويصير الكتاب بعدها سلعة ثمينة، ونادرة، مثل كنز.
كنت أحلّ ضيفا على صاحب مكتبة في شارع المتنبي عندما دخل رجل ستّينيّ ينوء بحمل رزمة من الكتب. وضعها بمهل على الأرض، والتقط أنفاسه، ثم سأل صاحب المكتبة وهو يجفّف عرقه إن كان يعرفه، وأجابه هذا بالنفي. قال الرجل متعجبا: “كيف تبيع الكتب ولا تعرف الروائي فلان بن فلان بن علان_وقال الرجل اسمه. اعتذر الكتبي منه ببرود، وكان الشيخ يفتح في الأثناء رزمته ويستخرج منها رواية بعد رواية... إلى أن بلغ الرقم عشرة، قدّمها للبائع هديّة، وهنا حدثت المفاجأة عندما رفض هذا قبول أيّ منها، وكانت حجّته أن القارئ لا يطلب في هذه الأيام كتب الأدب! أعاد الروائيّ توضيب الرزمة، وغادر المكان وهو يحملها مثل صخرة بين ذراعيه.
إن مصير حوالى 99 % من الروايات وكتب الشعر والنقد هو أن تكون أوراقها وقودا، أو يُعاد تصنيعها ورقا، أو أنها تقدّم وظيفة يذكرها الفيلسوف الأديب مدني صالح:
«يُهديك أحدهم كتابه، وتأخذه إلى البيت، تقرأ منه صفحات قليلة، ثم تعدّل به ميل ميز المبرّدة!».