TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > كلامٌ عاديٌّ جداً: الطبعة الخامسة

كلامٌ عاديٌّ جداً: الطبعة الخامسة

نشر في: 15 يونيو, 2021: 10:18 م

 حيدر المحسن

تندّر أحدنا على مؤلف وضع على غلاف كتابه عبارة «الطبعة الأولى» بالقول إن التعبير الصحيح هو»الطبعة الأولى والأخيرة». عدا عن الرقم المتواضع «500 - 1000» الذي تنتشر به المؤلفات الأدبية في العالم العربي، لا يبلغ عدد مرّات طبع الكتاب الرقم خمسة إلا فيما ندر؛ مؤلفات علي الوردي، مجموعة السيّاب الكاملة، وبعض أعمال فؤاد التكرلي، ولا شيء غير ذلك.

ومن المعروف والشائع في العالم أن هذا الرقم يمثّل نجاحا فاشلا للكاتب، يستطيع عن طريقه الدخول في النقاش مع أصحاب دور النشر غير الشهيرة لغرض ترجمة أعماله، والحديث حول إمكانية إصدار مؤلف جديد له. أما المؤسسات العتيدة في عالم الكتاب فهي التي تضع عقودها مع المؤلفين الذين تجاوزت أعمالهم الطبعة الخامسة، حصراً...

يحسب البعض تأليف الكتب تحريرا ذاتيا من لا مبالاة المجتمع لهم، فهم مستعدّون لشراء الشهرة بالنفيس أو بالنزير من ممتلكاتهم، بل إن هناك من يرتضي أن يرمي حياته وعائلته في المرحاض في سبيل تحقيق ذلك. تنتهي المراهقة الفكرية عادة في الأربعين، وتدوم لدى البعض إلى ما بعد سنّ الخمسين، وقد لا تنقطع إلا في الدار الأخيرة.

كل شيء مقدر له أن يصبح ما هو في الواقع، لكن هذا الأمر لا يصحّ في زماننا. فبدلا من تشجيع الإبداع تربك أغلب الجوائز الأدبية الممنوحة في عالمنا العربي كلّ شيء، وتجعل مناخنا الفكري مثل مستنقع لا يعيش فيه غير العفن الذي يختصّ بتسميم الهواء. تخيّلوا معي لو أن أحد المراهقين في فكره حصل على جائزة يعدّها الجميع مرموقة، كيف تكون النتيجة؟

في كل حقبة من السنين تكون الحظوة لكاتب واحد أو اثنين، ونادرا ما يتجاوز الرقم هذا العدد، وترمى أعمال العشرات أو المئات الذين لا يعرفون ماهيّة المستقبل في البحر. سُئل تاجر سجّاد شهير عن سرّ تفوّقه، فأجاب بأنه يضع نفسه عندما يبيع في مكان الشخص الذي يشتري، أي إنه يفكّر بما يريد هذا، وكيف ينظر، ويحسب. ولأن الكتاب سلعة تُباع وتشترى في السوق، فإن نصيحة التاجر تصحّ حتما بيننا نحن تجّار الحبر والورق. في خمسينات القرن الماضي عيّر أحد المفكرين الماركسيين علي الوردي لأنه يتعامل مع أمور المجتمع في تأليفه الكتب مثل تاجر، وأجابه الوردي بعبارته الشهيرة:

«نعم أنا تاجر، وتاجر بطّيخ!».

هنالك مدرسة أمريكية في النقد تهتمّ بالكتب الأدبية التي يُعاد إصدارها بعد مرور خمسين عام من تاريخ طبعتها الأولى. يلزمنا نصف قرن لحرق هالات الشهرة الكاذبة والمصنوعة، ويصير الكتاب بعدها سلعة ثمينة، ونادرة، مثل كنز.

كنت أحلّ ضيفا على صاحب مكتبة في شارع المتنبي عندما دخل رجل ستّينيّ ينوء بحمل رزمة من الكتب. وضعها بمهل على الأرض، والتقط أنفاسه، ثم سأل صاحب المكتبة وهو يجفّف عرقه إن كان يعرفه، وأجابه هذا بالنفي. قال الرجل متعجبا: “كيف تبيع الكتب ولا تعرف الروائي فلان بن فلان بن علان_وقال الرجل اسمه. اعتذر الكتبي منه ببرود، وكان الشيخ يفتح في الأثناء رزمته ويستخرج منها رواية بعد رواية... إلى أن بلغ الرقم عشرة، قدّمها للبائع هديّة، وهنا حدثت المفاجأة عندما رفض هذا قبول أيّ منها، وكانت حجّته أن القارئ لا يطلب في هذه الأيام كتب الأدب! أعاد الروائيّ توضيب الرزمة، وغادر المكان وهو يحملها مثل صخرة بين ذراعيه.

إن مصير حوالى 99 % من الروايات وكتب الشعر والنقد هو أن تكون أوراقها وقودا، أو يُعاد تصنيعها ورقا، أو أنها تقدّم وظيفة يذكرها الفيلسوف الأديب مدني صالح:

«يُهديك أحدهم كتابه، وتأخذه إلى البيت، تقرأ منه صفحات قليلة، ثم تعدّل به ميل ميز المبرّدة!».

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

السيد محمد رضا السيستاني؛ الأكبر حظاً بزعامة مرجعية النجف

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

 علي حسين منذ أيام والجميع في بلاد الرافدين يدلي بدلوه في شؤون الاقتصاد واكتشفنا أن هذه البلاد تضم أكثر من " فيلسوف " بوزن المرحوم آدم سميث، الذي لخص لنا الاقتصاد بأنه عيش...
علي حسين

كلاكيت: مهرجان دهوك.. 12 عاماً من النجاح

 علاء المفرجي يعد مهرجان دهوك السينمائي مجرد تظاهرة فنية عابرة، بل تحوّل عبر دوراته المتعاقبة إلى أحد أهم المنصات الثقافية في العراق والمنطقة، مؤكّدًا أن السينما قادرة على أن تكون لغة حوار، وذاكرة...
علاء المفرجي

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

لطفيّة الدليمي هناك لحظاتٌ تختزل العمر كلّه في مشهد واحد، لحظاتٌ ترتفع فيها الروح حتّى ليكاد المرء يشعر معها أنّه يتجاوز حدود كينونته الفيزيائية، وأنّ الكلمات التي كتبها خلال عمر كامل (أتحدّثُ عن الكاتب...
لطفية الدليمي

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

رشيد الخيّون حصلت أكبر هجرة وتهجير لمسيحيي العراق بعد 2003، صحيح أنَّ طبقات الشعب العراقي، بقومياته ومذاهبه كافة، قد وقع عليهم ما وقع على المسيحيين، لكن الأثر يُلاحظ في القليل العدد. يمتد تاريخ المسيحيين...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram