د. نادية هناوي
إذا كان افلاطون قد فكر في العالم فلسفيا بوصفه مدينة فاضلة هي يوتوبيا فردوسية لعالم صالح وسعيد؛ فإن هوميروس فكر في العالم شعريا بوصفه طروادة هيروتوبية.
ولا عجب بعد ذلك أن يدلل المتحصل من مآسي هذا العالم الرهيبة أن مثالية التفكير في العالم تندحر أمام التخييل الواقعي الذي فيه البشرية على مر الأزمنة أبعد ما تكون عن اليوتوبيا الافلاطونية وأقرب ما تكون إلى الهيروتوبية الهوميروسية.
وقد لا يوصل التفكير في المعقول إلى إجابات ما لم يكن التفكير في اللامعقول ملازما له فيكون التفكير في العالم هو الجنون ويكون العالم هو المجنون المفكر فيه. بمعنى أن وراء العالم المفكر فيه عالما لا مفكرا فيه. وليس مثل الكوارث والنكبات محفزا على التفكير فلسفيا أو إبداعيا في العالم المجنون والتساؤل عن فحوى غضب الطبيعة على الإنسان تارة بالزلازل والفيضانات البراكين وتارة أخرى بالأمراض والمجاعات والإبادات والحروب.
وواحد من المفكرين في جنون العالم ميشيل فوكو الذي تتبع تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي فوجد أن الحجز والاستشفاء منفصلان عن عالم الطب وأن لا تواصل حقيقياً في الطب بين النظرية والعلاج الذي كان يعطى للحمقى على يد الحراس لا على يد الاطباء وفي شكل نظام صارم كان يتبع يوميا في دار سان لوي في سالبير بير. وقد جسَّد توماس مان جنون العالم الحديث قبل فوكو، وذلك في عمله الروائي الضخم( الجبل السحري) الذي ترجمه إلى العربية علي عبد الامير صالح عام 2010 وصدر عن منشورات الجبل.
والرواية كلاسيكية يبلغ عدد صفحاتها ألفا إلا نيفا وتتناول موضوعة المرض الفتاك الذي أصاب إلمانيا في مطلع القرن العشرين وجعل السكان تحت سلطة المرض والموت.
ولقد درس بول ريكور هذه الرواية في أحد أجزاء أطروحته الثلاثية ( الزمان والسرد) كواحدة من أربع روايات مهمة نظرا لما فيها من حيز سحري خاص بين الواقع والزمان، به تعامل الكاتب مع العالم المجنون بشكل مبتكر من خلال مصح( بيرغهوف) المخصص لمرضى السل القاتل، دامجا الابعاد الثلاثة( المرض والثقافة والموت ) في التجربة الفريدة التي خاضها الشاب هانس كاستورب بطل الرواية الذي مر ذات يوم بالمصح فوجد نفسه بين ليلة وضحاها أحد نزلائه ليعيش فيه سبع سنوات مأساوية، ومصيره معلق بين الحياة والموت حيث الفظاعات اللاإنسانية وهوس معاداة الطبيعة. وقد أفقده القلق على حياته قوته كما حولته مراقبته الصارمة لدرجة حرارة جسده الى إنسان هزيل طريح الفراش.
أما التفكير فسلبه عقله بالحوارات والنقاشات التي كان يتبادلها مع صديقه يواكيم الذي شاطره الهم إزاء عالم غريب عاشا وسطه لا هو بالخرافة ولا الغواية ولا العدمية.
وابتدأت تجربته مع المرض في مصح بيرغهوف حين عرف نفسه أنه معافى( نعم معافى عدا فقر الدم) الرواية، ص74. وإينما يرد ذكر المصح في الرواية الضخمة فإنه يكون مقرونا بوصف ( الاعالي ) في إشارة رمزية إلى الجنون الذي جعل مرضى السل يقطنون على قمة الجبل.
والجنون الذي عرفه كاستورب هو لا منطقية الوقائع المريرة التي شاهدها فصدمته بقوة سواء تلك التي عرفها من يواكيم الذي كان أحد العاملين في المصح قبل أن يكون نزيلا فيه أو التي سيعرفها حين يقطن في المصح مريضا بالسل ليجتمع بمرضى من فئات عمرية مختلفة في أوقات الطعام والعلاج. وهؤلاء المرضى لهم سيمياء واحدة رجالا ونساء حيث الوجوه شاحبة والصفير لا انقطاع له منطلقا من صدور منخورة، والابدان هزيلة ومتخشبة بيض كالعاج في أحيان كثيرة.
وأول مشاهدة لاحت لكاستورب قبل أن يكون سجين هذا المصح هي هيرمينه كليفيلد الفتاة التي مرت منه فصفرت لا من شفتيها بل من صدرها، وهو ما أثار حفيظته فتداعت في داخله مشاعر سلبية هي بمثابة استباق زماني به وجه السارد الحبكة الروائية توجيها منطقيا مصعدا وتيرة السرد شيئا فشيئا ودافعا بالحبكة الى التعقيد امتاعا وادهاشا.
ولا تخفى براعة السارد في توظيف شخصياته لاسيما شخصية يواكيم التي أدت دور المساند للشخصية الرئيسة فحين تأخذ الحيرة كاستورب وهو يسمع صفير هيرمينه يشرح يواكيم له السبب علميا وهو أنه (حين تكون إحدى الرئتين متأثرة والاخرى معافاة تقريبا يجعلون الرئة السيئة تتوقف عن العمل فترة قصيرة كما يعطونها راحة)
وبالمساندة الفنية والموضوعية يغدو كاستورب أكثر قوة ومرونة في التعاطي مع العالم الجديد الذي عايشه سبع سنوات. وقصدية العدد سبعة معروفة ميثولوجيا وبما يجعلها تعني رمزيا أن البطل عاش الدهر كله.
ولأن الصفير كان أهم ملمح من ملامح المصح( أناس غازيون يملاؤن كل أسبوع رئتهم بالنتروجين، غريبو الأطوار) تعارف الأطباء على تسمية المصح بـ(نادي نصف الرئة) وهيرمينه هي مفخرة هذا النادي( لانها كانت قادرة على أن تصفر برئتها. إنها موهبة خاصة .. تفعل هي هذا كي تلقي الرعب في أفئدة الناس وبخاصة حين يكونون جديدين على المكان)
وتتواتر في الرواية مشاهد البؤس البشري من خلال يوميات كاستورب، ومنها مشهد المرضى وهم يقفون ارتالا يتسلمون حقنهم في الفخذ والذراع ويعودون أدراجهم، ومنها ارتفاع أثمان أوعية الاوكسجين فكان الوعاء الواحد لا يعطى للمريض إلا الى ذاك الذي يعاني سكرات الموت في محاولة أخيرة لإثارة قوته أو تعزيزها. وما بين الابتهاج والجنون والبشاعة والوقاحة يكون مصح( بيرغهوف) تجسيداً واقعياً للعالم المجنون.
وليس ثمة فارق مكاني بين المصح وسكانه المجانين، وبين المدينة وسكانها العقلاء سوى أن الاول واقع على قمة الجبل والاخر واقع في أسفله، وستكشف الرواية في خاتمتها عن الذكاء الكبير في هذا التوظيف المكاني للجبل، إذ سيكون التوافق عجيبا بين الزمان والمكان بالانفجار الذي ضرب أسفل الجبل فانهار أعلاه.
ويأخذ السارد بالشخصية الرئيسة نحو الجنون أولا حين يفكر كاستورب في نفسه فيجد أن( المرض والموت ليسا أمرين جديدين على الاطلاق) وثانيا حين يرى ويسمع عن أرقام لوفيات تحاط بالسرية التامة، وعن طرائق تعامل الأطباء مع المرضى الذين يمرون بصدمات عصبية، وثالثا في الغرائب التي ينقلها عن الطبيب كافكا، ومنها لامسؤوليته في تعامله مع مرضاه، فهو مثلا لا يعتني بنظافة محقنة الزرق تحت الجلد مما كان يتسبب بكارثة انتشار العدوى من مريض الى آخر ، فضلا عما كانت تعمله بعض الادوية والعلاجات من أضعاف مناعة المرضى تجاه المرض. وكيف أن أحد الاطباء كان يشجع المرضى على احتساء كميات كبيرة من العنب مما يجعلهم يموتون كالذباب لا بسبب السل الرئوي ولكن بسبب تليف الكبد.
وبسبب المكوث الطويل في المصح لم يعد كاستورب يعرف (ما إذا نجح أم خسر في صراعه مع المرض)الرواية، ص43، بل صار إنسانا بائسا، ومريضا يائسا، يلازمه المحرار الطبي رفيقا تجتاحه الرجفة من دونه، وهزيلا مصابا بالدوار من كثرة الاستلقاء.. واهتزت ثقته بالاطباء وخاصة دكتور كروكوفسكي الذي كان مسؤولا عن علاجه لكن من دون اكتراث فـ ( لم يكن ليبالي أين يقحم أبرته لذا كثيرا ما يكون الألم حادا والبقعة صلبة وملتهبة بعد ذلك بوقت طويل..كان رد فعل الجهاز العصبي كردة بعد مجهود عضلي شديد) الرواية، ص483.
هكذا صار الجنون يلازم كاستورب فمثلا حين يفكر ملياً في الشفاء والخروج من المصح ليعود الى حياته الطبيعية، يتردد في قبول هذا الامر وكأن الشفاء والرحيل لا يلتقيان( أنا أخجل أن اتنازل بسرعة وارحل هكذا لمجرد أنني شعرت بوعكة صحية وبأنني محموم على مدى أيام قلائل سأشعر بأنني جبان تماما سيكون ذهابي شيئا عديم المعنى) الرواية، ص127 كما كان كثير التفكير في الأبدية واللامحدودية وصار يطرح أسئلة جنونية عن الزمان من قبيل: هل يحتمل أن لا يكون هناك زمن ..إن لم يكن ثمة زمن ؟ هل الزمن وظيفة المكان أو أن المكان هو وظيفة الزمن؟ وكيف نعد الزمن أبديا والمكان لا محددا ؟
وغالبا ما تشي تساؤلات كاستورب بفلسفة ذرائعية وهو يناقش سلطة الدولة والقانون الالهي والكنيسة والعلم الطبيعي وكيف أن عدم مشروطية العلم الفلسفية قادت البشرية وستظل تقودها ابدا الى الظلام فيتساءل (ماذا بشأن افلوطين الذي قال إنه كان يشعر بالخجل لأن له جسدا ؟ او فولتير الذي باسم العقل احتج فهو زلزال ليشبونة المخزي؟ هل كانا سخيفين ؟ ربما ) الرواية، ص546
وستتلاقى هذه الافكار على المستوى الموضوعي بالصدمة التي يسببها على المستوى الفني انفجار المنجم تحت الجبل، ليغدو سحريا وهو يعلن انتهاء الفيروس الوبائي بانتحار مرضى مصح بيرغهوف الذين غدوا كالنمل يرمون أنفسهم بقوة رأسا على عقب من علو خمسة الاف قدم.
اما كاستورب الذي صيرته الرواية الضخمة في خاتمتها مفكرا؛ فإن كتلة من الطين ضربته فترنح واختفى مودعا الجسد المحموم محتفلا بالموت كروح تتمرد على جسدها( من هذا العيد الشامل للموت من هذه الدرجات القصوى من الحمى، مضيئا سماء المساء المغسولة بالمطر محولا إياها الى وهج ناري، هل يحتمل أن يعتليها الحب يوما ما ؟ ) الرواية، ص987.
وبهذا تنتهي الرواية الضخمة التي نشرت عام 1924 أي تزامنا مع ما كان العالم يشهده من ظهور وباء الانفلونزا الاسبانية عام 1918 والذي اودى بحياة أكثر من أربعة ملايين أوربي وكان يصيب بالدرجة الاساس الشباب الاصحاء وكان تفاقمه يؤدي الى الإصابة بالالتهاب الرئوي ليكون هذا المرض الكارثة الطبية الأقوى في تاريخ البشرية.
وما أرادت الرواية توكيده هو أن ليس المرض وحده يفتك بالبشر، بل سوء التفكير في المرض وتردي التعامل المعيشي، هذا فضلا عن أهمية الثقافة التي لها علاقة عكسية بالمرض فكلما ارتفع معدل الثقافة قلت مخاطر انتشار المرض. والرواية خير أداة في الحض على التفكير وغرس التثقيف وتعميق الوعي الميتافيزيقي بالوجود وما بعده.