ستار كاووش
إقتَرَبَتْ مني صاحبة الغاليري خوني أيزرمان، بعد أن أومأت لي مشيرة لبدء الإفتتاح، كي أقول كلمة وأرحب بالحاضرين كما يحدث عادة في المعارض. أخذتُ مكاني بجانبها، في حين إصطَفَّ الحاضرون على شكل دائرة غير منتظمة ممسكين بأقداحهم بهدوء، وهم ينقلون بصرهم بفضول بيني وبينها.
بدء الأفتتاح وأخذ الزائرون بالتنقل بين أرجاء المعرض الذي أقيمَ في غاليري أيزرمان بمدينة دوكم شمال هولندا. تجولتُ بعد قليل وسط الغاليري صحبة الأصدقاء والمعارف، ثم إقتربتُ من بعض اللوحات التي تم إقتنائها وأخذتُ أتأمَّلُ تفاصيلها، فربما تكون هذه المرَّة هي الأخيرة التي أراها فيها، لكني فكرتُ أيضاً -كما تقتضي الضرورة- بالنقود التي ستعرف طريقها نحو جيبي، وكيف سأستثمرها للمضي قدماً في هذا البلد. بكل الأحوال كان ذلك المعرض خطوة جيدة كنت أطمح إليها، وبداية سَعيي الى إنتشار أعمالي بأماكن عديدة في هولندا. حدث هذا قبل عشرين سنة تقريباً، وكنتُ وقتها حديث العهد في الأراضي المنخفضة، وكنتُ مع كل خطوة أفكر بما تخبئه لي الأيام القادمة.
مرت بضعة أيام بعد الإفتتاح، حتى جائني إتصال من صاحبة الغاليري، تلك المرأة صاحبة الشخصية الرفيعة والكرم غير المحدود، وسألتني أن كانت لديَّ رغبة لتناول الطعام مع بعض النبيذ في بيتها الذي يقع في الطابق العلوي للغاليري الذي يحاذي قناة مائية تنساب بهدوء وسط المدينة، فإتفقنا على اليوم التالي. ذهبتُ الى هناك وأنا متشوق لأخبار المعرض وأتطلع لمعرفة إن كانت ثمة زيارات قد حدثت، فإستقبلتني إستقبالاً جميلاً كعادتها، لكنها كانت أكثر إنشراحاً في ذلك اليوم، حيثُ أظهرت لي مجموعة من الرسومات التي رسمها ثلاثة أطفال زاروا المعرض (فتاتان وولد واحد) وتجولوا وسط اللوحات التي أثارت إعجابهم، ثم قاموا بتنفيذ مجموعة من الرسومات كهدية لي، بعد ان كتبوا إسمي عليها وأضافوا له بعض عبارات المحبة والتحيات اللطيفة مصحوبة بإسمائهم الكاملة التي توزعت على الرسومات. ولأني لم أكن موجوداً وقت حضورهم، لذا تركوها لديها لتسلمني إياها عند مجيئي في يوم آخر، وفوق هذا ذكرت لي (خوني) بأنها قامت بتصويرهم أثناء الرسم وسترسل لي الصور بعد طباعتها في المختبر القريب، وبالفعل استلمت بعد أيام صور الأطفال وهم مبتهجين في معرضي ومنهمكين بتنفيذ الرسومات التي أهدوها لي بمحبة تفوق الوصف. وقد إنتهى المعرض ولم أستطع رؤيتهم وقتها مع الأسف.
عشرون سنة مرَّت على تلك الرسومات وصور الأطفال الذين كانت تتراوح أعمارهم بين السادسة والسابعة. وكنت قد إنتقلت من مدينة الى أخرى ومن مرسم لآخر، وتغير سكني بين هذه المقاطعة وتلك. كنتُ أتنقل بين الأماكن المختلفة وصور الأطفال معي تصاحبها رسوماتهم التي تشبه كنزاً صغيراً، لا يمر وقت طويل إلا وأخرج هذه الصور وأتطلع الى الأطفال الذين لا أعرفهم شخصياً، لكنهم كانوا مثل أولادي. كان هناك شيئاً ما يربطني بهم، وكانت الرسومات التي كتبوا أسمي عليها في معرضي وثَبَّتوا عليها أيضاً أسمائهم الكاملة، تعني لي الكثير.
بعد المعرض بعدة سنوات أُغلِقَ الغاليري وإنتقلت صاحبته خوني للعيش مع إبنتها، وبالنسبة لي لم أذهب الى مدينة دوكم سوى بضعة مرات عابرة، أما أصدقائي الصغار، فلم يكن هناك طريقة للوصول اليهم أو أية معلومات للتواصل معهم. وهكذا مضت عشرون سنة، والموضوع يشغلني كل يوم أكثر من السابق، حتى فكرت أن أبحث عن أسمائهم على فيسبوك، بحثتُ بشكل جيد ، فلم أستطع العثور على (كريستينا)، كذلك بحثت عن (سيتسه) فلم أعثر عليه أيضاً مع الأسف، وإزدادت حيرتي حين بحثتُ عن (سيمونه) حيث وجدتُ شخصيات عديدة بذات الأسم، فدققتُ ببعض المعلومات والصور، لتظهر لي هي ذاتها، تلك الفتاة الصغيرة التي كبرت كثيراً الآن. فإنتابني شعور مختلط من السعادة والأرتباك والترقب، نعم هي بنفس الوجه الطفولي والإبتسامة اللطيفة، وذاتَ الأسم والمدينة. يالها من مفاجئة مقدسة، أن أرى تلك الطفلة وقد أصبحت أمرأة جميلة وأماً رائعة لطفلين، طفلين ذكرتني صورتهما بها هي ذاتها وقت زيارتها المعرض. هيئتُ نفسي جيداً لأكتب لها رسالة. لكننا لسنا أصدقاء على فيسبوك، لكن المحاولة تستحق ذلك وأكثر، لذا أرسلتُ لها البارحة رسالة فعلاً، كتبتُ فيها الوقائع والمكان والغاليري وَصَحَبْتُ ذلك بالصور والرسومات التي مازالت قريبة من روحي. واخبرتها بأني وزوجتي أليس ندعوهم هي وزوجها والأطفال لزيارتنا في حفلة غداء تليق بالمناسبة، كي نلتقي من جديد بعد هذه السنوات الطويلة، وأسلمهما أيضاً واحدة من لوحاتي الجديدة، تكون بمثابة إمتنان عن رسم صغير تَرَكَتْهُ قبل عشرين سنة، فتاة في السابعة من العمر وهي تزور معرض رسام غريب… هو أنا.
بإنتظار رَدّها، وكلي أمل أن تَطَّلع على رسالتي، رسالة رسام يعرفها منذ عشرين سنة لكنه ليس صديقها على فيسبوك.