حيدر المحسن
كتبتُ في التّسعينات أول قصة قصيرة، إثر مشهد صار أمامي؛ امرأة تسكن الطابق الثالث، وتحاور بائع سمك جوّال أوقف عربته على رصيف المبنى، ثم أنزلت سلّة خوص بواسطة حبل إلى البائع. انتهى المشهد، لكن الواقع البسيط يختفي خلفه عالم تتحرّك أكوانه مثل عالمنا، وكان عليّ أن اكتشفه، وأثبّته على الورق.
ألزمت نفسي أن أدخل شقة المرأة أولا، بواسطة الخيال بالطّبع، وأفحص كلّ شيء فيها: الأشخاص والأثاث والستائر وما تركه الزمان من زخارف غامضة على الوجوه والملابس والجدران، وما تناقله الأثير في الداخل من كلام وموسيقى وغناء، وكذلك معزوفات العصافير في الشّرفة. كتبتُ القصة بعد مرور أكثر من سنتين من العمل، وكانت تحمل عنوانا شعريّا طَرِبَ له أستاذي محمود عبد الوهاب حين سمعه: "نهار بطيء".
إن إشراقة الفن تجعل العالم ينقلب على رأسه. فمن أجل أن يمسك بمعنى الأشياء لا بدّ للشاعر من خلق واقع جديد يظهر خلاله الأصل وكأنه غير واقعي- والعبارة للشاعر والاس ستيفنز. كما أن الإخفاق في رؤية الواقع الجديد يعني العيش في الهامش أو خارج صفحات الوجود. كان الشاعر الفرنسي مالاّرميه يقول إن العالم خُلِقَ كي يوضعَ بين دفّتي كتاب؛ أي إنك إذا شئت اكتشاف موجودات الكون فعليك أولا قراءتها في كتب الأدب، ومن ثَمّ تتفتّح لك مغاليقها شيئا فشيئا، مثلما وقف آدم في البدء أمام كل شيء في حالة من العمى الكثيف، المعتم، وغير المقدس، ثم علّمه البارئ أسماء الحجارة والغيمة والزهرة والهواء العاصف، وتفتّحت عيناه عندها بالنظر. الاسم هو الاستعارة الأولى في اللغة، وقد بليت من كثرة الاستعمال حتى صارت دون شكل ومعنى. كانت البلاغة الأولى مستمدة إذن من الربّ، وبواسطة الشعر تستعيد الأشياء صورتها الأولى، وتصلنا حقيقتها غير منقوصة، وهذه فائدة الأدب. إن غايته هو تلقّي المعنى الإلهي للوجود، ونقله بالصورة التي يفهمها الناس، والتي لولا وساطة الأديب لبقيت كلّ المسائل والحقائق والموجودات في مكانها قبل أن يبدأ الخلق، أي في العدم.
من تزفيتاييفا إلى ريلكه: "طوبوغرافيا الروح- هذا هو أنت. ومع كتابك عن الفقر والحج والموت أدّيتَ خدمات جلّى لله أكثر من الفلاسفة كلهم والكهنة كلهم مجتمعين".
ولكن كيف يتحقّق للفنّان هذا الأمر، أي صنع الخيال الذي هو الواقع الأصحّ؟
بعد مناقشته للإنجاز الذي جاء به فلوبير، يقرّر موباسان أن المهمة شبه المستحيلة التي قام بها أستاذه مؤلف مدام بوفاري تطلّبت منه جهدا كاملا يوازي مجموع أنشطة العديد من البشر:
1 - متبحّر في العلم (قرأ وعلّق على مكتبات كاملة).
2 - كيميائي (تخرج من بودقته العجيبة صيغ مطلقة تحوي في خمسين كلمة نظاما فلسفيّا كاملا).
3 - صيّاد (يترقّب على الدوام وهو في مكمنه الكلمة المناسبة ليصطادها).
4 - مخرج مسرحيّ بمقدوره بناء عمل يكون ديكورُه هرما من كريات الأطفال الزجاجية الصغيرة.
5 - كاهن يعيش وحيدا ناذرا نفسه نذرا كاملا لإلهه.
6 - إنسان يحبّ الأدب حبّا مطلقا، وليس لديه أيّ اهتمام آخر أو رغبات أُخَر، كما أنه من المستحيل عليه، تقريبا، التحدّث في موضوع آخر.
7 - بعد أن يجتمع جميع هؤلاء في شخص واحد، لا بدّ له من حبيبة ملهمة تختصر بصفاء قلبها كلّ جمال الكون، لأن الكاتب يكون عندها في معتَزَله، منقطعا تماما إلى العمل.
علينا حيازة كلّ هذه الشّروط من أجل كتابة قصة، ويبقى المؤلف سنينا عديدة متحرّرا من كلّ ما حوله، كأنه يعيش في جزيرة نائية، يكتب ويمحو ويشطب ويرسم ويخطّ حسب القياس، فالخطأ يؤدي -والقول لمحمد خضير- حتما إلى الجنون أو الانتحار.