طالب عبد العزيز
حتى وقت قريب كانت معظم المدن العراقية الرئيسة تمتاز بصفة ما، تميزها عن المدن الاخرى، فبغداد دار السلام ومدينة المنصور، والموصل الحدباء وام الربيعين، والبصرة مدينة النخل والانهار وديالى عاصمة البرتقال وهكذا، ولم تقتصر سمعة المدن هذه على العراق إنما تجاوزتها الى إذن وعين المستمع العربي والاجنبي.
لم تكن الخصيصة هذه عراقية، إنما هي مما تسمّى وتعرف به الكثير من مدن وعواصم العالم، فباريس مدينة النور، بكل معنى الكلمة منذ عصور بعيدة في الزمن، وروما متحف العالم المرئي، وفينيسيا بانهارها وقاربها، وفيينا بفنونها وهكذا هي دمشق وبيروت ومراكش ولندن ونيورك وغيرها، لكن، ما يختلف في القضية أن مدن العالم تلك ظلت حريصة على إبقاء الصفة التي تقدمت بها، وعرفت من خلالها، فيما راحت تندثر صفات وحقائق المدن في شرقنا العربي، أما يحدث لمدننا في العراق فهو الكارثة عينها.
فبغداد لم تعد مدينة للسلام، وبصقوا على رأس المنصور في فندقها، الذي يطلُّ على دجلة الخير، وكرخها ورصافتها لا يجلبان الهوى اليوم من حيث ندري ولا ندري، والموصل أسقط الاوباش الدواعش منارتها الحدباء، وذهب ربيعاها الى ما لا نعلمه، فيما أسقطت الحروب والحكومات الفاسدة معظم نخل البصرة، حتى صار أهلها يشترون التمر السعودي والايراني من اسواقها، بعد أن ردمت الجرّافات أنهارها، التي كانت تنفرد عن أنهار العراق بالمد والجزر، وبرتقال ديالى نسمع به ولا نراه، فهو زائر متعجل في السوق، ولم نعد نرى عنبر العمارة(الكحلاء) في الاسواق، وإن وجد فهو بلا رائحة ولا طعم، حتى الرمان اختفى من بساتين بهرز وشهربان، مثلما اختفت تحف البسط والمدات في سوق مدينة الحي بالكوت.
وإذا كانت المدن التي عرفت باقتصادياتها ومعالمها السياحية والمدنية قد تعرضت الى ما تعرضت اليه، بسبب سوء الادارات المحلية، أو بسبب السياسة العامة للدولة، فإن المدن المقدسة، مثل النجف وكربلاء والكاظمية وسامراء وغيرها، هي الاخرى تعرضت الى هزيمة في قدسيتها، هناك شيء ما زحزح خارجها، إذ، لم يعد وقعها في الروح الشعبية بمثلما كما كانت عليه، بل وتعرض رجل الدين الى هزيمة في قدسيته كذلك، وأهتزت الهالة التي كانت تحيطه، إذ لم تعد مكانته قائمة بوصفها المنقذة للنفس من الاخطاء والاثم والضلال. كانت الاضرحة والمزارات المبنية من الطين في القرى النائيات وعلى الانهار أكثر تأثيراً عند العامة والخاصة، وربما كانت الادعية تستجاب تحت قببها الرخيصة وغير المذهبة، وكان رجل الدين بهيئته البسيطة، والمتقشفة يقرب الناس الى الله أكثر وأكثر.
نحن نتعرض الى إصابات قاتلة في ضميرنا الانساني، أن يتخفي النخل والتمر من البصرة شيء مروّع، ولا ينطوي على ضرر اقتصادي حسب، إنما يهزُّ الوجدان العراقي، والامر كذلك في ديالى وبغداد والموصل والعمارة وغيرها. لا بدَّ من هوية لمدننا، ولا بد لأنساننا من يقين بأهمية هويته، ما يحدث خارج عناية الحكومة بحاجة الى مراجعة واعية، العراق قلب الشرق، واهماله وتكرار خراباته يستدعي انتباه الكون.