لطفية الدليمي
أحَبّ الناس القطار في كلّ مكان من هذا العالم ؛ فهو - فضلاً عن كونه أحد المعالم الرئيسية للحداثة التقنية منذ القرن التاسع عشر - يرتبط في مخيلتنا بعاطفة تكاد تجعل منه شخصية أسطورية. وقائع مفصلية شكّلت هذا العالم كان القطار طرفاً فاعلاً فيها:
أغاثا كريستي ورواياتها التي جرت وقائعها الغامضة في دهاليز قطار، القدرة على ربط أجزاء شاسعة من جغرافية متباعدة بطريقة رخيصة جعلت من مفهوم الامة / الدولة كياناً مشخّصاً (مثل الهند) ؛ بل وصل الأمر حدّ أن جعل آينشتاين من القطار طرفاً في تجربة فكرية ألهمته نظريته في النسبية الخاصة.
يتيحُ لنا القطار إمكانية رؤية العالم بعَيْنَي حيوان زاحف (كما القطّة) بدلاً من رؤية الطائر المحلّق مثلما يحصل في سفرنا بطائرة، يحفظُ لنا قدرة رؤية التفاصيل الصغيرة ونحنُ مسترخون في مقاعدنا أو ممدّدون في أسرّتنا - لو شئنا صرف قدر ضئيل من المال وسافرنا في غرفة خاصة -، كلّ هذا بمبلغ معقول يعفينا من عبء قيادة سيارة خاصة ويكفينا مؤونة تشنج العضلات والإرهاق، ويدفعنا دفعاً للإستغراق في التأمّل والنظر والتدقيق في عجائب الطبيعة وصنائع التقنية وسلوكيات البشر المختلفين في بلدان مختلفة.
القطار - والسكة الحديد معه بالطبع - أحد معالم الحداثة الروائية بخاصة، ولطالما كان القطار رمزاً روائياً في روايات الحداثة ؛ فهو القادر على كسر رتابة الزمان الراكد والمكان الثابت والمشهديات التي تراها العيون كل يوم، ثمّ أنّ القطار أقرب لجماعة بشرية صغيرة نتمثّلُ فيها كلّ الأشكال الدرامية للمعيش البشري اليومي وبخاصة عندما تكون هذه الجماعة البشرية في رحلة طويلة تخترق الحدود الجغرافية والآيديولوجية والثقافية.
كثيراً مافكّرتُ في مشروع سكّة حديد البصرة – بغداد – برلين (المعروف بمشروع الباءات الثلاثة): يكاد المرء يحسبُ نفسه وكأنه في أجواء ألف ليلة وليلة عندما يرى منشور شركة (توماس كوك) وهو يُعلنُ مواعيد إنطلاق القطار من البصرة مع محطات توقفه وتوقيتاتها (توقيتات الإنكليز المحسوبة بالدقيقة ) على طول خط سيره وصولاً إلى لندن خلال ثمانية أيام. أعترفُ بأنني كثيراً ماوضعتُ مخططات عدّة لرواية تجري وقائعها في هذا القطار؛ فهو تجربة مثالية لحيوات متوازية يمكن معها تبادل الخبرات والتفاعل مع أشكال مغايرة من الحياة.
لماذا فكّرتُ - ولم أزل - في موضوعة قطار البصرة – بغداد – برلين ؟ دعونا من الحسابات الجيوسياسية رغم أهميتها، ولنفكّر في حقيقة واحدة بين حقائق كثيرة: كلّ بلد لديه شبكة سكة حديد متطورة تصله مع باقي العالم يكون مواطنوه في العادة أكثر استرخاءً وإقبالاً على الحياة. هم يستطيعون متى ماشاؤوا أن يشتروا تذكرة بثمن رخيص تتيح لهم الإنطلاق في قطار ورؤية مايمكن لهم من تطوّرات على الأرض حصلت لدى جيرانهم أو الأبعدين من غير الجيران. لن يقع هؤلاء يوماً تحت شعور ضاغط بأنهم مأسورون في قفص، والوطن ذاته لن يكون عندهم قفصاً للأسرى بل سيكون مكاناً يأنسونه وترتاح نفوسهم إليه.
نحنُ في العادة نخلعُ مواصفات يوتوبية على كلّ مالاقدرة لنا على رؤيته، وفضيلة القطار الكبرى أنه يكسرُ أوهامنا اليوتوبية ويقرّبُ المثال من الواقع، وحينها سنعرفُ أنّ لندن أو برلين أو باريس أو،،،،، ليست مثابات يوتوبية كتلك التي داعبت أحلامنا بل هي أماكن يعيشُ فيها بشر مثلنا حتى لو كانوا يتفوقون علينا في تفاصيل محدّدة.
هل ترونني مغالية لو قلتُ أنّ قطار البصرة – بغداد – برلين لو كان يعمل خلال العقود الماضية لكان العراقيون أقلّ تأزّماً في عقولهم وأرواحهم، ولأعيدت كتابة تأريخ العراق بطريقة تجنّبه الكثير من الحرائق التي إلتهمت أبناءه وجعلت الأحياء الباقين منهم كائنات بأرواح معطوبة.