ستار كاووش
ما أن ندخل المقهى، حتى ينتابنا شعور بالإرتياح الممزوج بلذة وفضول وترقب، حيث تعلوا الأصوات هنا، وتنتشر الأيماءات والقصص الجميلة هناك، وتتجدد التلميحات التي لا تنتهي. حتى صارت المقاهي -بالنسبة للكثيرين- هي الأماكن التي تأتي بعد البيت في أهميتها،
وأصبحت لكل مقهى خصوصيتها وتفردها حتى لو كانت صغيرة أو غير معروفة. وتتباين المقاهي حسب ثقافة البلد واختلاف المدن والأماكن. وكما توجد المقاهي التي تستقطب أصحاب إهتمامات معينة، فهناك مقاهٍ أخرى أخذت شهرتها من مكانة الأشخاص المشهورين الذين يرتادونها، مثل مقهى فلور في باريس التي كان يرتادها سارتر وسيمون دي بوفوار وغيرهم من مشاهير المبدعين، ومقهى القطط الأربع في برشلونة والتي كانت المكان المفضل لبيكاسو أيام شبابه، حيث خلدها في رسم جميل جعلته المقهى غلافاً لقائمة الطلبات التي تُقَدَم للزبائن، ومقهى سارة برنار في باريس، والتي حملت إسم الممثلة المسرحية العظيمة، ومقهى غيربو في باريس، وهي المكان الذي تأسست فيه الإنطباعية من خلال لقاءات مونية وبيسارو ورينوار ورسامين آخرين، ومقهى الزهاوي في بغداد والتي حملت إسم الشاعر العراقي الشهير، كذلك مقهى سلافا التي كان يرتادها الجواهري في براغ ومقهى ريش في القاهرة، والتي كانت المكان المفضل لنجيب محفوظ، وغيرها الكثير.
العالم مليء بالمقاهي، ويكاد لا يخلو شارع أو منعطف من هذه الفسحة الدافئة. وقد تركت هذه الوفرة إختلافات كثيرة بين تفاصيل المقاهي وتعامل الناس معها. وفي أحيان كثيرة يشير إختيار وقت دخول المقهى أو نوع الطلبات، الى خلفية الناس أو يعطي إنطباعاً عن المكان الذي جاءوا منه، فحين تحتسي الكاباتشينو بعد الساعة العاشرة صباحاً في ايطاليا مثلاً، فسيفهم الإيطاليون بأنك أجنبي، لأن الإيطاليين يحتسون الكاباتشينو مبكرين عادة مع الفطور، وغالباً قبل الساعة العاشرة صباحاً. أما المقاهي الهولندية، فإذا نظرتَ جيداً فسترى على جانب البار الذي تُوَّزعُ منه الطلبات، حبلاً يتدلى من الأعلى ويصل لإرتفاع رأس الانسان تقريباً، مُعَلَّق في نهايته قرب السقف جرس كبير، وحين يحرك شخص ما هذا الحبل ويدق الجرس، فهذا معناه بأنه سيدفع ثمن الشراب لكل الموجودين في المقهى أو الحانة. وفي أوكرانيا فمن الطبيعي أن تذهب صباحاً نحو المقهى القريب من بيتك أو حتى السوبرماركت (هناك داخل كل سوبرماركت بار صغير) لإحتساء قدح من الفودكا قبل التوجه للعمل. في مقاهينا تسمع ضربات قطع الدومينو من نهاية الشارع، مثلما تُسمعُ أغاني أم كلثوم ببغداد في المقهى التي تحمل إسمها، كما تَنطَلق أغاني الفادو في مدينة لشبونة من المقاهي والحانات عند كل منعطف وجادة (وهي تشبه الى حد بعيد أنغام وإيقاعات وطريقة أداء الأغاني العراقية الحزينة). وهناك الميني مقهى التي لا تتعدى سوى طاولتين صغيرتين جداً تحيط كل منهما كرسيين، تطل عليك بشكل غير متوقع في منعطف شارع ما، كما في الزوايا الصغيرة التي تكثر فيها هذه المقاهي بمدينة فلورنسا. وفي مقاهي المدن التي تكتظ بالسائحين مثل باريس يكون ثمن المشروبات متفاوتاً حتى في المقهى الواحدة، فثمن قدح النبيذ في الطاولات التي تطل على ناصية الشارع أغلى منه في الطاولات الداخلية للمقهى رغم أن النبيذ هو ذاته! في بلداننا العربية نذهبُ أحياناً الى الكوفي شوب لإحتساء القهوة، الشاي أو الكاباتشينو صحبة الأصدقاء، لكن في هولندا عليك أن تحاذر من دخول الكوفي شوب وطلب القهوة، لأن الكوفي شوب هو المكان الوحيد المخصص في هذا البلد لبيع الحشيشة وبعض انواع المخدرات التي يُسمحُ بتعاطيها في كل أرجاء الاراضي الواطئة. أما إذا سمعتَ أحد الهولنديين وهو يوصي على طلبه بطريقة غريبة بقوله (أريد قهوة مقلوبة) فهذا طبيعي جداً في هذا البلد، ويُقصَد بذلك قهوة يكون فيها الحليب أكثر من القهوة.
جمال مقاهي أوروبا هي مقاهي الرصيف، أو ما تسمى (تَراس) والتي تمتليء صيفاً بالناس، وحتى أيام الشتاء الباردة تكون أغلب مقاهي الرصيف مفتوحة، تصاحبها تدفئة تقف منتصبة عادة على شكل أعمدة، وفوق هذا تتحرك النادلات برشاقة وخفة بين زائري المقهى وهن يحملن نوعاً من الأغطية الملونة التي تشبه البطانيات، كي يلفها أغلب الحاضرين عليهم ليشعروا بالدفء في الوقت الذي مازالو يجلسون فيه بالجانب الخارجي للمقهى. وأتذكر ذات مرة كيف إقتربت مني النادلة بحنو في المقهى القريب من متحف كافكا في براغ وهي تلفني بيديها ببطانية دافئة حين رأتني متمسكاً بمكاني في الجانب الخارجي للمقهى، بعد أن دخل كل الزبائن الى داخل بناية المقهى أثر هطول بعض المطر.
لا تختلف أساليب وأنواع وتفاصيل المقاهي من بلد الى آخر فقط، لكن دفع الحساب يختلف أيضاً، ففي المناطق العربية ندفع ثمن طلبات الأصدقاء تلقائياً دون تردد، وأحياناً نتسابق لفعل ذلك، بينما في أوروبا بشكل عام، فأن الأمر لا يتعلق بعمق رابطة الصداقة وقرب الشخص، بل أن ثقافة البلد تقتضي بأن يدفع كل شخص حساب الطلبات التي طلبها.
جميع التعليقات 1
حسين ثامر بداي
مقال رائع جدا ومحرك للذاكرة انها جولة ممتعة في ارجاء المقاهي