لطفية الدليمي
يخبرُنا الفيزيائي اللامع فريمان دايسون Freeman Dyson) 1923 – 2020) في كتابه الرائع (العالِمُ متمرّداً The Scientist as a Rebel) أنّ روح التمرّد والمساءلة الحثيثة هي بعضُ أعظم ميّزات العقل العلمي، ويسهبُ دايسون في الفصول الافتتاحية من الكتاب في سرد تفاصيل عن الروح المتمرّدة لدى بعض صانعي العلم الحديث.
ليس التمرّد الخصيصة الأبرز للعلم ؛ بل ثمّة خصائص أخرى منها: كونه القوة الاعظم في الإرتقاء بأخلاقيات البشر بسبب قوة أخلاقية كامنة فيه (أو أنه ينطوي على قدرات الإرتقاء الأخلاقي من غير انتظار مكافأة مقابلة)، وأنّه قوة التغيير الدنيوية الحاسمة التي تعيد تشكيل الحياة، وأنّه لايقبلُ التعامل وفقاً لنمط المقامرة الباسكالية (كما يحصلُ مع الدين). المرء يقبلُ الإشتغال في العلم أو لايقبل: ليس ثمة مَنْ يقسرهُ على ممارسة علمية تستعصي عليه ولن يفكّ مغاليقها سوى الشغف الشخصي بالعلم. لامكان لمناورة أو مراوغة أو إدعاءات مضخّمة.
لن أخفي ألمي أو شعوري بالحزن وأنا أرى كتاباتي أو مترجماتي العلمية تحقق قراءات واطئة. هذه حقيقة أعترف بها ولستُ أسعى للإلتفاف حولها. لسنا مجتمعاً نشأ على قاعدة كان العلم أحد أعمدتها الرئيسية، ولم يسهم العلم في حياتنا بما يجعله قاعدة تحتية في أنساق متّسقة صانعة لثقافة رصينة. العلم عندنا بناءٌ فوقي لايلامسُ واقع الحياة اليومية ولايساهمُ في خلق الثروة ؛ لذا يحسبه البعضُ أقرب إلى ممارسة مدرسية منفّرة ومضجرة. العلمُ غابة شاسعة تضمُّ شتى الألوان والتنوّعات الحيوية، والرحلة في هذه الغابة مغامرة مدهشة لكلّ عقل شغوف.
* * * * *
ثمة نصبٌ مهيب يتشامخ قريباً من مدينة سان أنطونيو بولاية تكساس. الأبيات الشعرية التالية مكتوبة أسفل النصب:
إلامَ يهدفُ نشاطنا البشري؟
المزيد من المدارس، والقليل من السجون
نريدُ كتباً أكثر، وبنادق أقلّ
نريدُ تعليماً أفضل، وعيوباً أقلّ
نريدُ راحة أكثر، وجشعاً أقلّ
نريدُ عدالة أكثر، وانتقاماً أقلّ
نريدُ المزيد من الفرص لزراعة الطبيعة بكيفية أفضل
هذا بعضُ ماكتبه صامويل غوميرس، مؤسس الإتحاد الأمريكي الفدرالي للعمّال، وأوّلُ رئيس له. بعد سبعين سنة من وفاة غوميرس تضاءل دور هذه النقابات، وراحت أحلام غوميرس في (كتب أكثر وبنادق أقلّ، راحة أكبر وجشع أقلّ،،،) تبدو أحلاماً فنتازية من الماضي البعيد في مجتمع أمريكي تكرّست فيه آيديولوجيا السوق الحرّة والسياسات النيوليبرالية الجشعة.
يبدو لنا العلم أحياناً وكأنه آلة جبارة وجِدت وأديمت لمصلحة الطبقات الغنية والممسكة بقيادة السلطة والمدعمة بأدوات التمكين المالي. هذه أخدوعة كبرى. العلمُ هو القوة الكبرى التي ساهمت في الإرتقاء المادي بأحوال البشر جميعاً، والتطوّر المادي لدى عامة البشر هو مايُبقي جذوة الحس الأخلاقي متقدة في نفوسهم. جرّبْ أن تقرأ مثلاً رواية (سيّد الذباب) للحائز على جائزة نوبل في الأدب (وليام غولدنغ) وستعرفُ أيّ نكوص حيواني نحو استحقاقات البيولوجيا البدائية سيتملّكُ أعضاء أية جماعة بشرية مغلقة عندما تجدُ نفسها في مواجهة أخطار وجودية حقيقية تنذرُ بفناء قريب. هذا مافعله العلم ومنتجاته التقنية: أشبع الوحش البيولوجي المتضوّر جوعاً في روح كلّ فرد منّا، وفي الوقت ذاته منحنا الوقت والإمكانية للتلذذ بمتع الحياة ؛ لكن مع كلّ مافعله العلم والتقنية فلايزال البعض يرغبُ في الإفتئات على حقوق الآخرين وسلبهم مايملكون. تطوّرُنا الأخلاقي ناقصٌ وفيه مثالب كثيرة، والتعويل على المنظومة الاخلاقية الدينية لن ينتهي بنتيجة فضلى. الدين لن يروّض هذا الوحش القابع في دواخلنا مالم نسعَ نحنُ لترويضه مستعينين برؤيتنا الشخصية وإرادتنا العقلية المسنودة بدافعية تتعالى على نظام المكافأة الأخروية، والخبرة البشرية تؤكّدُ لنا هذه القناعة.
يتفاخر عالم الرياضيات جي. إج. هاردي بأنّ أعماله الرياضياتية المبهرة كانت مدفوعة بحس جمالي محض ولايمكن أن تكون لها أية أهداف عملية، وذهب به الشوط إلى حدّ وضع مقايسة مفادُها أنّ العلم إذا كان مفيداً للبشر فسيميلُ إلى تعزيز نمط من التنمية القائمة على التفاوت في توزيع الثروة، وتدمير الحياة البشرية. هذه أطروحة شديدة التطرف فيها صبغة عتيقة ترى في الممارسة العلمية شيئاً شبيهاً بالممارسة اللاهوتية في الأديرة فضلاً عن أنها تغضُّ الطرف عن السياسات البشرية التي ترسم معالم توظيف مخرجات العلم والتقنية. العلم شيء والسياسات العلمية شيء آخر، ثمّ أنّ الاشتغالات العلمية، ومهما بدت غارقة في اشتغالاتها الرمزية (الرياضياتية) فيمكن أن يكون لها تطبيقات مباشرة، وربما من المناسب الإشارة إلى انّ عمل هاردي في نظرية الأعداد كانت له توظيفات مباشرة في نظرية التشفير التي طوّرت بعد وفاته عام 1947.
يُلاحظُ أنّ التقنيات العلمية التي تثيرُ معضلات أخلاقية كبرى أقلّ بكثير من تلك التي لاتثيرها. صحيحٌ أنّ أسواق المال صارت تتحكّم في نمط تطوير التقنيات، وأنّ معظم التقنيات الحديثة عملت على زيادة رؤوس أموال أصحاب الاسهم والسندات، وأنّ تطوير نظم الذكاء الإصطناعي الخبيرة باتت تهدّد بتسريح أعداد كبيرة من العمّال ؛ لكن تبقى هذه المعضلات الأخلاقية في نطاق السياسات البشرية وكيفية التصرّف بشأنها من قبل الحكومات والمؤسسات البيروقراطية الكبرى.
دعونا نتخذ من الدراجة مثالاً بسيطاً لبيان الطريقة التي ساهم فيها العلم في إعادة تشكيل سلوكياتنا البشرية: ساعدتنا الدراجة الهوائية قبل أكثر من قرن على التنقّل بقدر جيد من الحرية وبكلفة معقولة هي في متناول الجميع. لم تكن الدراجة الهوائية وقفاً على أغنياء أو متحدّرين من عوائل أرستقراطية غنية. الدراجة الهوائية مثالٌ لمنتج علمي ساهم في إشاعة قدر من العدالة الإجتماعية وبخاصة في ظلّ عدم وجود كوابح مجتمعية أو تشريعية تعيق رواجه بين أوسع قطاعات المجتمع. جاءت الدراجة البخارية لكي توسّع من تخوم حرية التنقّل المتاحة لنا، وصار في مستطاع أي فرد (ومنهم أبناء طبقات عاملة وفقيرة) في عشرينيات القرن الماضي القيام بجولة شاملة في مختلف أرجاء القارة الأوربية. عمل العلم في الوقت ذاته على تطوير مهاراتنا اليدوية ؛ فسائق الدراجة البخارية وهو يجوب مناطق بعيدة ليس بوسعه سوى أن يلجأ إلى صندوق عدّته الميكانيكية عند حصول طارئ في دراجته، وهذا التطوّر في المهارة اليدوية إنعكس إيجابياً في أنظمة التعليم التي راحت تؤكّد على أهمية التعليم المهني والهندسي وعدم الإقتصار على دراسة الكلاسيكيات واللغات واللاهوت مثلما كان شائعاً في كبريات الجامعات الأولى (كامبردج وأكسفورد مثلاً). هل يصحُّ مثال الدراجة الهوائية والبخارية على المفاعلات النووية مثلاً؟ كلا بالطبع ؛ فالمفاعل النووي كتلة إنشائية معقدة ومكلفة لاتستطيع النهوض بعبئها سوى حكومات أو شركات ثرية بالضرورة.
يميل العلم الحديث إلى تعزيز الفردانية. شاعت في سنوات سابقة تقنيات التصميم المدعم بالحاسوب CAD، والإنتاج المدعم بالحاسوب CAM، ويرى كثير من العلماء أنّ الوقت ليس ببعيد عندما سيُتاحُ لأحفادنا إنتخاب النمط الوراثي للطيور أو الكلاب أو القطط أو حتى الأجنة البشرية التي يريدونها عبر الإنتخاب المدعم بالحاسوب CAS، والتكاثر البيولوجي المدعم بالحاسوب CAR.
الوسائل التي يمكن بها للعلم أن يكون واسطة للخير أو الشر كثيرة ومتنوّعة، وثمة قاعدة سائدة ترى بأنّ العلم يعمل من أجل الشر عندما يسعى لتوفير وسائل اللهو والعيش الطيب للأغنياء فقط، ويصبح العلم خيّراً عندما يعمل على توفير الإحتياجات الأساسية للفقراء. الحقُّ أنّ معظم العلماء يميلون إلى هذه الرؤية، ولم تكن متبنياتهم الماركسية سوى تأكيد لهذه الرؤية حتى لو تخالفت مع رؤية صانعي السياسات العلمية.
يمكنُ عدّ الخفض المستديم لأسعار منتجات التقنية العلمية الفضيلة الكبرى للعلم. الدراجة والسيارة والنقل بواسطة القطار والحواسيب وأجهزة الهاتف المحمول أمثلة على ذلك حتى لو ظلّ بعضها خارج نطاق القدرة المالية لشرائح ليست بالقليلة من البشر. العلم يعمل على تضييق الفجوة المالية بين الناس ؛ لكنّ السياسات المدعومة برؤى آيديولوجية هي التي تعمل على تعظيم الفجوة الفاصلة بين الأثرياء والفقراء.
تميل لجان تمويل ودعم البحوث والمشاريع في الجامعات إلى التركيز على تقنيات تطبيقية ذات عوائد تجارية أكبر، وبالتالي فهي تخدم الأغنياء أكثر من الفقراء لأنّ الأغنياء هم من يستطيع تحمّل تكاليف الدفع وبخاصة في المراحل الاولية من إطلاق هذه التقنيات المستحدثة وقبل أن تصبح شائعة على نطاق تجاري واسع (الحواسيب مثالاً).
يقدّمُ (هنري فورد) مثالاً فريداً لرأسمالي أراد فرض سلطته الدكتاتورية وقدرته الهائلة على إنتاج السيارات في تعزيز الطلب على سيارته الجديدة (فورد موديل T ذائعة الشهرة) ؛ فقد خفّض أسعارها بدرجة كبيرة حتى أنه سمح ببيعها لعمّال مصنعه بأقساط مريحة للغاية. هل ثمّة من يشابه فورد بين أثريائنا الجشعين؟ لابأس هنا من الإشارة إلى حقيقة أنّ رأسماليتنا العراقية هي رأسمالية مالية تعمل على مداورة رأس المال وتحقيق المرابحة الجشعة فيه من غير تطوير حقيقي في دورة الأعمال Business Cycle وماتتطلبه من عمليات بحث وتطوير دائميين. كيف لنا أن نتوقّع شيوع العلم في أوساط يشيعُ بينها أنّ المال يأتي بالوراثة أو بعمل تجاري من نوع الإحتكار الإستيرادي لبضاعة محدّدة، أو من قطاع المقاولات الحكومية؟
المعضلة الأساسية في القرن الحادي والعشرين هي عدم التناغم بين التقنيات الاساسية الثلاث في هذا القرن (تقنية المعلومات، التقنيات الحيوية والهندسة الوراثية والخرائط الجينية “ الجينومات “، تقنيات السيطرة العصبية والتحكّم العصبي) والإحتياجات الأساسية الثلاثة للفقراء: إسكان رخيص، رعاية صحية أساسية رخيصة، تعليم رخيص، وقد يؤدي هذا اللاتناغم إلى ثورة الفقراء على التقنيات الحديثة بمزيج من العنف واللاعقلانية.
يمكن للأخلاق إذا تمّ مأسستها وعقلنتها أن تكون أقوى من السياسة والإقتصاد، ولنا في تجربة السياسات الحمائية للبيئة من قبل المؤسسات المدافعة عن البيئة (والناشطين البيئيين من الأفراد كذلك) مثال حي ؛ فقد إستطاعت هذه المؤسسات وقف اللجوء إلى الطاقة النووية كمجهّز رئيسي للطاقة في ألمانيا والسويد وسويسرا وبلدان اخرى في العالم.
السوق الحرة لن تستطيع إنتاج تقنيات صديقة للفقراء ؛ لأنّ هذه السوق صديقة الأغنياء لكونها صنيعتهم ومن الطبيعي أن تعمل لخدمتهم. يمكن في المقابل للتقنيات التي تسترشدُ بالأخلاقيات أن تكون صديقة للفقراء والاغنياء على حد سواء. ليست هذه رؤية غارقة في المثالية بل هي رؤية في نطاق الممكن.