طالب عبد العزيز
في مدننا الحارة، في الضواحي المزدحمة، ذات الاسواق الكاذبة، والمباني سيئة التهوية، والمفضوحة في تصريف مياهها الثقيلة، في أحياء البصرة، وسط العشار، التي ماتزال قائمة على أساس رنينها التاريخي، وصدى أسماء منشئيها، وليس على حقيقة ما هي عليه اليوم، فقد انقضى عصر المشيد الاول، يوم كان البنّاءُ يعي ماذا يعني أن تبنى منزلاً، سوقاً، متنزهاً عاماً، وفي أزقة الاحياء متهالكة المنازل:
السعودية، الكزّارة، البجّاري، الساعي، العزيزية، سوق حنا الشيخ القديم، سوق الحُورية، أم الدجاج والخضارة وغيرها في الضواحي القديمة هذه عليك أن لا تسير وحدك في الليل، لأنك ستصطدم بكل شيء إلا الجمال.
ولعل أغرب ما يمكن معاينته هناك هي أرتال الجرذان والقطط والكلاب، التي تجوب الشوارع الضيقة، معتمة الانحناءات، والمتخذة من الانقاض والاثاث المتروك، والملقى هنا وهناك مآمن لها، تلك التي لا تجد غرابة في مصادفتها بأمكنة كثيرة، في ساعات انقطاع الكهرباء خاصة. لكنَّ الاغرب من ذلك كله هو انشداد أبناء ساكني الاحياء هذه الى العاب كرة القدم، ومتابعة أخبار المدن المتحضرة، والتفكير بالسفر الى باكو وبيلاروسيا وروسيا البيضاء، هناك، حيث يسقط الثلج أبيض كثيفاً، فيختلط مع سيقان وأرداف النساء الجميلات، هذه الحياة وبهذا التباين، بهذا الاختلاف لا تعدم من يصادفك في النهار ليتحدث عن الرثاثة، وآلان باديو ونظام التفاهة... المصطلحات التي انتجتها ثورة تشرين.
على إحدى مصاطب نهر العشار، قبالة فرن وحلويات السعدي جلستُ، أنتظرُ ابني، الذي سيقلني بسيارته الى البيت، في الساعة المتأخرة من الليل هذه، هو تأخر بعض الشيء، فانصرف النِّدمان كل الى بيته، أخذتهم سيارات الاجرة، أو انحشروا في سيارة واحدة، وبقيت، وحدي أطالع يافطات المحال، فأقرأ: شط العرب فون، مقهى البقالين، فندق الليلة السعيدة، وحارس الكراج غير مسؤول عن ما بداخل السيارة. تمرق سيارة شرطة النجدة بطيئة، لا يأبه لها جماعة المشردين، الذين اتخذوا من المصطبة المجاورة مجلساً لهم، وراحوا يجادلون في اهمية الشريعة على النهر، ويحثون الحكومة على تصريف مياهه القذرة بتجاه شط العرب الكبير، ووجوب قيام مجموعة الناشطين المدنيين بغلق منافذ الصرف الصحي، لئلا تتسرب الجرذان من النهر الى ماتحت المصاطب..
لا أعرف ما إذا كانوا قد شربوا من الخمرة أكثر مما يجب، أو أن خمرتهم مغشوشة أكثر، فالحديث الذي كان يجري بينهم يتخذ مسارب شتى، فيه من الجد مثلما فيه من الهزل والشطح. كنت للتو قد انهيت مع الاصدقاء، في المكتب البائس، بمبردة مائه، ذات الهواء غير المسمى في كتب الروائح والعطوراحاديث الشعر والكتب والموسيقى والفلسفة، وها هم شركائي في المصطبة المجاورة يستعيدون معي شيئاً من ذلك. ثمة ما يؤكد الخلل في الخمرة..
هل سيكون بمقدروي تصور ملابس وحشمة مرتادي شارع الوطني، بنواديه وكابريهاته وحاناته وصوت المطرب الوسيم عباس البصري، والفرقة الارجنتينية التي رقصت مع نسائها، ثملا قبل أربعة عقود من اليوم، انا مع مجموعة الاصدقاء، الذي غادروا مقهى ابي نجاح معي الى هناك، حيث سيكون للحديث في الشعر والكتب والموسيقى والفلسفة معنى آخر، خارج آلان بوديو ونظام التفاهة والرثاثة.