لطفية الدليمي
إذا كان نيسان عند إليوت هو أقسى الشهور ؛ فتمّوز هو الأقسى لدى العراقيين. كانت الخصوبة والحياة الرّغِدة قرينة الأسطورة التمّوزية ؛ لكنّ مفاعيل التحزّب والإنغلاق على فكر آيديولوجي ضيق جعلت من تمّوز العراقي مرتعاً لكلّ قسوة الطبيعة والبشر في نفوس العراقيين.
لم يكتفِ بعضٌ من العراقيين بالحرّ التمّوزي الذي يسوط ظهورهم وسط انقطاع كارثي للكهرباء بل راحوا يمعنون في تجويد مواهبهم الإستعراضية في المناكفة الصراعية بين الملكيين والجمهوريين.
ربما يكون لإليوت الحقّ في وصف نيسان بأنه أقسى الشهور فنيسان شهد واقعة صلب المسيح حسب المرويات المتداولة؛ لكن ماذا بشأن تموزنا العراقي ؟ علامَ يتناكف فيه العراقيون وكلّ شهورهم فجائع متصلة ؟
لنحاولْ تفكيك هذه الظاهرة بهدوء. يبدو العراق بالنسبة للمراقب المحايد وكأنه مقهى تصطخبُ فيه أصوات العراقيين، كلٌّ يسعى لإبتلاع خصمه المقابل بالصوت العالي والنبرة المحتدّة والزعيق الآيديولوجي والمغالاة في التعصب الفكري. ليس ثمّة مِنْ تفكّر فيما حصل للعراق وأهله. كم منّا قرأ كتباً رصينة - تناولت التأريخ العراقي - نشرتها مراكز أكاديمية عالمية ؟ هل تناولنا تجربة (مجلس الإعمار) الفذّة بما تستحقّ وهي التي إعتاش المخططون العراقيون على دراساتها وبرامجها في العهود اللاحقة للعهد الملكي ؟ إستبدلنا قراءة كتب (توبي دودج) و(بيتر سلغليت) و (فيبي مار) الرصينة بأطروحات شعبية عن نوري السعيد الذي يشرب العرق البغدادي مع شرائح الخيار المملّح، وعبد الكريم قاسم الذي لم يفارقه سفرطاس أخته وقت غدائه في وزارة الدفاع. حتى كتاب حنا بطاطو عن العراق راح بعضنا يقرؤه قراءة تجزيئية بما يتوافق وهواه السياسي، ناكراً ومتناسياً الأجزاء الأخرى من هذا الكتاب الممتاز البعيد عن منزلقات الآيديولوجيا الحزبية.
يخطئ كثيراً من يتصوّرُ أنّ الملكية تعني الوصي ونوري السعيد. لماذا ننسى خريج كولومبيا التربوي الكبير (محمد فاضل الجمالي) والفقيه الدستوري (توفيق السويدي) ودكتور الهندسة الميكانيكية (ضياء جعفر) وووو ؟ العراق الملكي الذي تأسس عام 1921 صار في العقود اللاحقة عراقاً كبيراً واعداً بالكثير من الإمكانيات المبشّرة بدولة متمكّنة ومحترمة في منطقة الشرق الأوسط وبحسب ماتتيحه الظروف المعقّدة لعراقيين معروفين بالمناكفة وتغليب الإعتبارات المذهبية وعدم الإنضباط وغياب الإتفاق على أهداف وطنية محدّدة.
ماالذي نحتاجه في مواجهة هذه المناكفات التموزية المكروهة ؟ نحتاجُ تخففاً من الروح التحزّبية وأثقالها الآيديولوجية القاتلة. نحتاج قراءة هادئة - أكاديمية كلّما أمكنتنا قدراتنا الفكرية واللغوية - لتأريخنا العراقي الذي دوّنته عقول رصينة بدلاً من الإقتصار على مذكّرات وسير ذاتية لحزبيين لايستطيعون التخفف من أثقال تأريخهم.
لايستطيع عراقيون كُثُر العيش خارج صندوق الأحزاب، وتلك معضلة كبرى. أحزابنا الكبيرة التي تّأسّست جميعها في العهد الملكي (مفارقة. اليست كذلك ؟) حصرت فاعليتها الحركية السياسية في الإستيلاء على كرسي الحكم. وماذا بعدها؟ تهميش كامل للآخرين والتعامل معهم باعتبارهم طامحين في كرسي الحكم. ماالعمل إذن؟ وضعهم تحت المطرقة والسندان عبر قوانين صارمة تقنّن المشاركة السياسية وتقصرها على الحزب الحاكم. هذه المعادلة الصفرية لحكم الأحزاب في العراق هي التي شوّهت العراقيين وجعلت منهم كائنات حزبية ترى في الحزب ملاذاً لتوفير الوجاهة والسلطة والثروة. كيف لنا بعد هذا أن نتصوّر نموّ فردٍ طبيعي يسائل الوقائع بحيادية علمية وضمير حي وعقل منفتح ونزاهة أكيدة ؟
لندع الموتى يرتاحون في قبورهم ؛ فهم ليسوا بحاجة لترحمّنا عليهم أو إمطارهم بدعوات الخلود في جهنم. مفاتيح الجنة والنار ليست بأيدينا ؛ لكن بوسعنا - لو شئنا - أن نسعى للإرتقاء بعراق أضعناه وسط مناكفات تموزية صاخبة.
العراق يتهاوى، والقوم في مناكفاتهم سادرون .