ستار كاووش
أَجِلتُ ببصري على طاولات مقهى (دي بالي) في أمستردام، ثم إخترتُ زاوية مناسبة للجلوس، وأخرجتُ من حقيبتي بعض الأوراق مع أقلام الرسم، قبل أن تقترب النادلة وتضع قدح النبيذ على الطاولة.
بدأت برسم بعض التخطيطات والموتيفات الصغيرة التي أستعملها عادة في لوحات قادمة، وأنا بإنتظار صديقي الكاتب والانسان المدهش خالد مطلك، تماهيتُ مع الرسومات وتناسيتُ الإنتباه للفتاتين الجميلتين اللتين تراقباني بفضول. فجأة سمعت صوتاً متهكماً، لكني أعرفه جيداً (راح تظل بهاي السوالف؟) رفعتُ رأسي واذا بخالد مطلك واقفاً بكل الجمال الذي أعرفه فيه، مع ذات العينين الذكيتين وتلك الإبتسامته الساخرة التي عرفتها قبل أكثر من عشرين عاماً، وهي الفترة التي لم نلتق فيها. لملمتُ أوراقي ورمقتُ الفتاتين بنظرة تشبه التحية وإنطلقنا معاً وسط أمستردام. مرت ساعات مذهلة ونحن نقلب بسعادة كبيرة، كتاب (مدينة كاووش) الذي كتبه خالداً عن سيرتي الفنية، ليأتي المساء ثم ينقضي جانب من الليل، لنقرر تمضية يوماً آخر معاً. وبما أني أعيش في مقاطعة فريسلاند الشمالية التي تبعد بضع ساعات عن أمستردام، لذا قررنا أن نكمل ما تبقى من الليل في أمستردام وبين أضواءها ومقاهيها الممتعة، في منتصف الليل بدأنا البحث عن فندق دون جدوى، فالسائحين لم يتركوا مكاناً شاغراً في فندق. وبعد البحث في زوايا ومنعطفات أمستردام، عثرنا أخيراً على غرفة مناسبة في فندق، لكن أثناء الحديث مع موظفات الإستعلامات، لاحظتُهن ينظرن إلينا بإبتسامات حانية وعطوفة ممزوجة ببعض الحياء، وقد فهمتُ بسرعة سبب ذلك، لقد إعتقدن إننا أصحاب ميول أخرى تواعدنا لنقضي الليلة في الفندق، ففي الثقافة الهولندية عموماً لا يقضي رجلان ليلتهما في غرفة واحدة بفندق هكذا إعتباطاً، لكنهن مع ذلك نظرن للأمر من باب الحريات الشخصية التي يتمتع بها هذا البلد، لذا ما كان عليَّ سوى ملأ إستمارة صغيرة خاصة بالفندق ببعض المعلومات مع عنوان سكني، أعطيتها لسيدة الإستعلامات الشقراء، التي تمنت لنا ليلة طيبة!
في الصباح، خرجنا مبكرين لأجواء أمستردام ببيوتها القديمة ذات الطابوق الأحمر وساحاتها التي ملئتها التماثيل البرونزية والزهور وواجهات المقاهي التي توشك على فتح أبوابها، نبحث عن سجائر لخالد ومكان نحصل فيه على بعض الطعام والشراب، توقفنا وسط ساحة ريمبرانت حيث ينتصب تمثال الرسام العظيم وقد حط طائر صغير على كتفه، وكأنه يحيي فنان الملهم، وتوزعت أمام قاعدة التمثال مجموعة أخرى من التماثيل البرونزية التي تحاكي شخصيات لوحته الشهيرة (الحراسة الليلية). عطفنا يسار الساحة، فلاحت لنا مقهى فتحت أبوابها تواً وإصطفت طاولاتها في الخارج، فأخذ خالد مكانه خلف واحدة من الطاولات، ومضيتُ أنا نحو الداخل لإخبارهم بالطلبات. فتحت باب المقهى، فبانَ لي شابان يرتديان بنطلونين قصيرين فقط ويضعان أقراط غريبة في أنحاء مختلفة من وجهيهما، بينما تغطي الأوشام مساحات متفرقة من جسديهما، وإمتد ذلك عند احدهما الى الرقبة التي وشم عليها شفاه حمراء كبيرة. تقدمتُ وتحدثتُ الى أحدهما طالباً شاياً وقهوة مع علبة سجائر. وعندما سمع النادلان هذه الطلبات نظرا اليَّ بوقت واحد ثم تبادلا النظرات فيما بينهما، ليديرا وجهيهما نحوي من جديد، ويقول لي أحدهما متعجباً (ماذا؟! شاي؟ قهوة؟ سجائر؟!) قبل أن يردف زميله صاحب وشم الشفاه على الرقبة، ضاحكاً (نحن نقدم السجائر هنا، هذا صحيح، لكننا نقدمها فقط محشوة بالحشيشة). ليكمل زميله (نحن نوشك أن نباشر بالعمل، لكن قل لي هل تريد حقاً سجائر عادية ومعها شاياً وقهوة؟) وحين أكدتُ له طلبي بصيغة العارف. قال لي (هل قرأتَ اليافطة؟ هذه كوفي شوب) ثم أشار الى الخارج، قبل أن يكمل زميله ( ألا تعرف أن الكوفي شوب هنا هي المكان المخصص فقط متعاطي الحشيشة وبعض أنواع المخدرات، حيث يغيبون في عالم آخر ويطير بهم الدخان نحو السماء السابعة؟)، ضحكت وإعتذرتُ منهم قائلاً لم انتبه لما هو مكتوب على اليافطة، فقد ظننتها مقهى عادية من مقاهي أمستردام، فرمقني كمن يرمق فلاحاً جاء تواً من مقاطعة درينته للعاصمة. وكأنه يقول في سره (أنت في أمستردام ياعزيزي؟!). ثم ضحك النادلان معاً وقال لي أحدهما (لا تهتم، بكل الأحوال سأحضر لك قهوة من التي أحضرناها لأنفسنا، لكن السجائر عليك بتدبيرها من احدى ماكنات بيع السجائر في أي شارع قريب، ثم أردفَ مازحاً (وإلا ستحصل هنا فقط على سجائر من هذا النوع) وأشارَ ضاحكاً الى السجائر الضخمة الملفوفة يدوياً والتي وضعت بشكل حزمات خلف واجهة زجاجية مستطيلة.