TOP

جريدة المدى > عام > الحرج النقديّ في (السرديّة الحرجة).. للدكتور عبد الله الغذاميّ

الحرج النقديّ في (السرديّة الحرجة).. للدكتور عبد الله الغذاميّ

نشر في: 31 يوليو, 2021: 09:48 م

د. نادية هناوي

- حرج الانتقاء الفلسفي-

منذ أن تهشم التمركز المنطقي للعقل وتفتت متربولويات اللوغوس وهمشت متعالياته وتضادت أحادياته حتى غابت السرديات الكبرى وتميعت،

ولم تعد لها أولوياتها في الهيمنة بعد أن حلت محلها السرديات الصغرى التي بها اتسعت ميادين السرد وتعددت نظرياته وتنوعت مسمياته، وصارت الرؤية التعددية والهوية الكونية هما الطاغيتان بدلا من مفاهيم وتصورات كانت شائعة حول العقل والهوية والثقافة والزمان والمكان والآخر وما شاكلها من موضوعات تدخل في باب الأدب، وبعضها الآخر ينتمي إلى ميادين مجاورة أو بينية للأدب كالاجتماع والميثولوجيا وعلم النفس والتاريخ والفلسفة وغيرها.

ولعل واحدة من السرديات التي كانت مهمشة في ظل السرديات الكبرى هي السردية العربية وما حفل به قديمها وحديثها من ظواهر وقضايا كان يُعتقد في الغالب أنها مجرد بدايات لا تؤسس لأية تقاليد ليكون كل ما لدينا من سرود دخيلة علينا، انتقلت إلينا بالترجمة من آداب الأمم المجاورة.

ولا خلاف أنّ السردية العربية من التنوع والثراء ما يجعل أية دراسة لها متشعبة وكبيرة وتحتاج الى عمل جماعي لرصد ظواهرها والوقوف على مراحلها واحصاء تصانيفها.

وإذا كان السرد كمفهوم اتسعت ميادين تطبيقاته حتى عمت مختلف جوانب الحياة، فإن التراث العربي سيكون ميدانا رحبا لدراسات سردية جديدة ستثير اهتمام الباحثين الغربيين في العقود القادمة أكثر مما كانت قد أثارت اسلافهم في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.

ولا غرابة أن تراثنا غني بالتصانيف العلمية والادبية فمن الفلسفة الاسلامية والتاريخ وعلوم اللغة والنحو والفقه والطب والجغرافيا الى الادب وما فيه من خطب ومقامات ومنامات وحكايات وسير واخبار وتراجم ورحلات وقصص حيوان ورسائل وقصص فلسفية.

وما قد يسفر عنه هذا الغنى من كنوز سردية مستقبلية ستكشف عنها منهجيات جديدة وستظهر لنا ما هو غامض ومتروك من تراثنا الدفين.

وواحدة من صور تلك الكنوز السردية هي سرديات الفلسفة الإسلامية كأحد المناطق الغنية في تراثنا، نظرا لما يجتمع فيها من مفاهيم الفكر التجريدي والميتافيزيقي الجدلية المتعلقة بمسائل ذهنية كالوجود والنفس والعقل، وما يتغلغل فيها من مفاهيم السرد النصية المتعلقة بالزمان والمكان والمنظور والهوية والمبنى والمحتوى.

ولأن النقد الثقافي يجمع المنهجيات ويداخل بين العلوم والآداب برؤى منفتحة وبتعددية نظرية، لذا يغدو له دوره المهم في الاتجاه بالفلسفة اتجاها سرديا عبر دراسات نقدية تبشِّر أو تعرِّف بسرديات الفلسفة الإسلامية. وهو ما أخذنا نشهده مؤخرا في كتابات بعض المفكرين العرب في مجال فلسفة التاريخ، منطلقين انطلاقات سردية ما بعد كونيالية ومتبنين نظريات ميتا تاريخية تجمع السرد بالتاريخ والفلسفة.

ويعد الناقد الدكتور عبد الله الغذامي واحدا من الذين تنبهوا إلى نصوص الفلسفة الإسلامية وما فيها من غنى متطرقا وبدرجات متفاوتة إليها في أغلب كتبه وبشكل ينم عن حرص واضح بالبحث فيها وتحري ما في عقلانيتها من قضايا تتلاءم وطبيعة ما انهمك بالاشتغال عليه من مفاهيم الحداثة الغربية التي تصب في باب الدراسات الثقافية ما بعد كولونيالية وما فتحته له من آفاق للتلاقي ما بين الفكر العالمي المعاصر والتراث الفكري العربي وكيف أن الأخير سابق في مفاهيمه كثيرا من المفاهيم الغربية.

ولعل البداية التي منها انطلق الدكتور الغذامي في سردنة النص الفلسفي الإسلامي تظهر من اول كتاب له هو (الخطيئة والتكفير) 1985 وفيه اهتم بمقاربة آخر المناهج الغربية بما في تراثنا من مسائل نقدية وفلسفية، فحين وقف عند نظرية الاتصال الياكوبسنية بادر الى تأكيد اسبقية حازم القرطاجني في التلميح لعناصر الاتصال في ما ذكره عن الاقاويل الشعرية والتخييل كما وجد أن الفارابي في كتابه(جوامع الشعر) وضع تأسيسا اصطلاحيا محملا بالمد الدلالي لمفهوم الشعري والشعرية. أما السيميولوجيا فقادت الغذامي إلى الحديث عن الاشارة مستعينا بفلسفة الغزالي(لاثراء فكرتنا عن علاقة الدال بالمدلول) واجدا في تقسيم الغزالي حلا لمعضلة الدال والمدلول.

ولم تمنع كشوفات البنيوية الكثيرة الغذامي من تأكيد أسبقية ابن سينا للبنيويين في كتابه(الشفاء) الذي ناقش فيه مسائل شكلية، منها الصوت وعلاقته بالمعنى بما سماه المشاكلة.

وظل النزوع الى رصد الفلسفة الاسلامية ملازما الغذامي في كتبه اللاحقة جنبا الى جنب عنايته برصد المستحدث من المناهج النصية وما بعد النصية. ولا خلاف أن هذا النزوع الفلسفي ليس جديدا فلقد اهتم به كثير من النقاد العرب، وبعضهم كان أكثر توغلا في مسائل هذه الفلسفة وتأويلاتها كنصر حامد ابو زيد ومحمد اركون وهشام شحيط وحسام الدين الالوسي بيد أن أبحاثهم وطروحاتهم كانت تتوغل فكريا باتجاه عمودي تاريخي أو باتجاه افقي بنيوي بينما كانت توجهات الغذامي ثقافية تلامس ولا تتعمق، وتختار ولا تحصي، وباتجاه نقدي يجمع التراث الادبي بالتراث الفلسفي من جانب، ويواصل ربط النقد العربي بالنقد الغربي من جانب آخر.

وهو ما يتضح جليا في كتابه(السردية الحرجة العقلانية أم الشعبوية) وفيه اتخذ الغذامي السرد وسيلة بها واكب الدراسات الثقافية الغربية في شكل أنموذج فلسفي إسلامي لم يتعمق فيه ومع ذلك عممه على الثقافة العربية فاتحا أيضا بابا بحثيا جديدا يتيح للباحثين التعمق في فلسفتنا وما تحويه من مجالات وفروع استحكمت عليها السردية.

وصحيح أن فكرة الكتاب قائمة على تضادية مفهومي العقلانية والشعبوية اللذين هما أطروحة الامريكي جوناثان هايت في كتابه(العقل الصالح أو المستقيم) المنشور بطبعة نيويورك عام 2012 وفيه حصر العقلانية بالفكر السياسي المحافظ والليبرالي، فإن الغذامي وسّع نطاق العقلانية عبر الالتفات إلى الفلسفة الإسلامية واجدا فيها (سردية حرجة) هي عبارة عن نسقية ذهنية مضادة للعقلانية تتمثل في(حاكمية العقل).

والسردية الحرجة أيضا سردية ثقافية اهتدى الغذامي إليها من خلال وقوفه عند مفردة العقل في الثقافة الإسلامية، فبدا بالفقيه (ابن سعدي والالباني) ثم البلاغي(الجرجاني صاحب التعريفات) ثم الفيلسوف(الغزالي) متسائلا هل للعقل الخالص أن يتحول إلى عقل عملي؟

وبعد وقفة عند العقل الكانطي وجد أن سبب الحيرة يكمن في ما سماه الغزالي (عجز العقل) ويعني أن العجز ميزة في العقل تجعل كل علم وكل عالم يتجاوز هذا العجز بحيل معرفية(تحتال على العجز بمثل ما يحتال العجز عليها)

وبهذا التخييل تكون السردية الحرجة نشاطا فلسفيا يدفع نحو الغوص فيه سرديا، بيد أن الفيصل في هذا النشاط هو كيفية انتقاء النص الفلسفي. ولا يخفى أن للفارابي منظورا خاصا للعقل هو أكثر سعة من تضييقات الغزالي ومع ذلك انتقى الغذامي نص الغزالي الفلسفي. وليس جديدا هذا الانتقاء فمنذ كتابه(الخطيئة والتكفير) وهو يقدم الغزالي على غيره من الفلاسفة ربما لأن الفلسفة ختمت به وربما لأنه الأكثر رضا عند الفقهاء بسبب وسطيته وربما تشدده ازاء مسائل تصب في باب التربية والاخلاق.

ويكون التوظيف النقدي للنص الفلسفي الإسلامي متزامنا مع توظيف النص الفلسفي الغربي من خلال تتبع معنى العجز في المعاجم الغربية وفي نصوص بعض فلاسفة العقل الغربيين والمحصلة أن العقل مفهوم يعجز عن الاستقلال الموضوعي ضد استعمار الذهن بالمخاتلات (وهي مخاتلات أدخلت البشرية في سردية متصلة من الالتباسات المفاهيمية ولم تفعل الفلسفة اكثر من شحن مزيد من الالتباسات المفاهيمية وكل محاولات تفكيك الالتباسات ظلت محبوسة عبر طرح مفهوم مقابل مفهوم وكلها تضمر المخاتلة الدلالية) وهو ما يرى فيه الناقد الغذامي سردية حرجة تتمثل في تضاد التفكير بين نفس ناطقة مادية وصورة تجريدية للعقل وتحولاته غير العقلانية التي تحصل بتحول اللغة ومثاله العملي على الحرج السردي هو تجربة الابتعاث للدراسة في جامعات الغرب التي مرت بها أجيال سعودية (فكان لا بد لهذا العقل أن يتغير) كأن العقل العربي المعاصر لم يشهد تغيرا إلا حين غير لغته.

ليكون الحرج العلمي لا في ما أسفرت عنه السردية الحرجة في مثاله الفلسفي الوحيد (الغزالي) بل في تعميمه هذا النموذج على الثقافة الإسلامية ثم في مثاله المحلي الذي ضربه وأراد تعميمه على واقعنا العصري.

ولا يمكن لدراسي الفلسفة والمتخصصين فيها أن يسلكوا هذا المسلك الانتقائي فيقعوا في الحرج العلمي، ولا أن تكون لهم هذه الطريقة في النمذجة ليس لأن مناهجهم العلمية لا تسمح لهم بهذا كله حسب، بل لأنهم أيضا لا يتخذون الثقافة منهجا للبحث عن الحقيقة.

وما اتخاذ الثقافة وسيلة لفهم الفلسفة سوى نوع من مشاكسة المفكرين لا بقصد إعاقة عملهم وإنما إنهاض هذا العمل بما هو غريب غير بيداغوجي من خلال فبركة المسائل وتسخيفها أو بتمويه الجهود وتمييع الحدود والقفز على تراتبية الفروع والأبواب، اختبارا للعقل ونقضا لمسلماته الذهنية وتذكيرا بأن المعطيات لا تتأتى من خلال المناهج العلمية وحدها بل يمكن للثقافة ايضا أن تدلو بدلوها فتخرج من ثم بمعطيات سردية وليست علمية.

وعلى هذه الشاكلة راح الغذامي يبحث عن السردية الحرجة في أطروحة كانط الثلاثية عن العقل العملي والعقل الخالص او المحض وحكم العقل وتعاليه ثم مفهوم جون لوك للعقل الناقص، قافزا إلى الغزالي مقدما إياه عليهما، مؤيدا طرحه لمفهوم العجز العقلي. وما يتوصل إليه الغذامي من جراء السردية الحرجة هو أن الفلسفة ليست أم العلوم بل هي اختراع لا لسد حاجة، بل اختراع هو أبو الحاجة.

وأما مقاربة الفلسفة كاختراع بالذكاء الاصطناعي الذي هو أيضا اختراع إنما انبنى على تمثيلات من المجتمع الأمريكي، تدلل على ما سماه (العقلانية الاصطناعية) بوصفها عقلانية جديدة أي ذكاء جديد. وما يترتب على الفلسفة كعلم هو بالتأكيد ليس مما يترتب عليها كاختراع فالأولى تترتب عليها معرفة الحقيقة والثانية يترتب عليها الخوف من الذكاء الاصطناعي. ومن ثم تظل عقلانية هي هي قديمة كانت أو جديدة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

حينَ تَشْتَبِكُ الأقاويلُ

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر

ملعون دوستويفسكي.. رواية مغمورة في الواقع الأفغاني

مقالات ذات صلة

علم القصة - الذكاء السردي
عام

علم القصة - الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الثاني (الأخير)منطق الفلاسفةظهر الفلاسفة منذ أكثر من خمسة آلاف عام في كلّ أنحاء العالم. ظهروا في سومر الرافدينية، وخلال حكم السلالة الخامسة في مصر الفرعونية، وفي بلاد الهند إبان العصر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram