لطفية الدليمي
قد يبدو عنوان هذه المقالة لكثيرين مصطبغاً بغلالة بلاغية من النمط الذي تناوله غاستون باشلار في كتاباته: النار ، الأحلام ، الماء وسواها من الكينونات الوجودية التي تشيع في حياتنا. ليس هذا ماأرمي إليه في مقالتي.
ثمة ترتيب من الثنائيات في حياتنا يبدو حتمياً ، وقد تكون بواعث هذه الحتمية متأتية من ترسيخ هذه الثنائيات بفعل الكتابات الثقافية السائدة ، والعلمُ يلعبُ – بالتأكيد – دور القائد الطلائعي في هذا الميدان. لنتأمّل مثلاً مفردة الزمكان Spacetime التي صارت واحدة من أرسخ المفاهيم الثقافية (لاالعلمية فحسب) في مداولاتنا الجمعية منذ أن عمّمها آينشتاين في نظريته النسبية العامة عام 1915. الزمكان ليس محض تركيب تخليقي ثقافي يجيء في سياق ثقافي بل هو كناية عن ثنائية متلازمة تربط الزمان ربطاً سببياً شرطياً بالمكان ؛ فلامكان من غير زمان مثلما لازمان من غير مكان ، وتترتب على هذه الثنائية الشرطية أسئلة فلسفية كثيرة منها مثلاً: كيف بدأ الزمان؟ بل ماطبيعة الزمان أصلاً؟ وإذا كان الإنفجار الكبير إيذاناً ببدء الكون الذي نعرف (أي المكان والزمان لو شئنا الدقة أكثر) فماالذي يمكن أن نقوله عمّا سبق الإنفجار الكبير؟ سيجري الحديث طبعاً عن المتفرّدة Singularity التي سبقت هذا الإنفجار والتي لم يكن فيها زمان ولامكان ، وهذه مباحث جميلة تتناولها كتب حديثة رائعة كتبها فيزيائيون كبار من أمثال كارلو روفيللي الذي يرى في الزمان وهماً سايكولوجياً ، وأنه ليس أكثر من إرتباطات علائقية مع الأشياء في العالم المادي. قد يشاكس البعضُ في أنّ مثل هذه الموضوعات تنتمي لعالم الميتافيزيقا ؛ لكن هل يظنُّ هؤلاء أنّ قناعاتنا الميتافيزيقية زوائد لاحاجة لنا بها في هذا العالم؟ الفيزيائيون الكبار هم الميتافيزيقيون الكبار في هذا العالم وإن لم يصرّحوا بهذا الأمر ، وليس للأمر برمّته علاقة بالنظم الإعتقادية السائدة في هذا العالم (الدين مثلاً) بقدر ماله علاقة بكينونات وجودية مشخّصة (الجمال مثلاً). أكثرُ من يبحثُ عن الجمال في هذا العالم هم الرياضياتيون والفيزيائيون ، وإذا كان هذه البحث سيوصمُ بالإنحراف الميتافيزيقي فليكن هذا. الحياة في نهاية الأمر ليست معطىً صلباً نتعامل معه وفقاً لقوانين صارمة لفسحة من الوقت ثم نغادرها إلى المجهول الأكبر. تلك لعبة عبثية لاأحد يطيقها أو يقبل بها.
يمكنُ سحبُ مثال الثنائية الشرطية في إقتران الزمان بالمكان إلى مثال أكثر أنسنة للكائن البشري ، أعني بذلك الناس والمكان. هل يمكنُ تصوّر مكان مطلق بلا بشر في نطاق الغلاف الحيوي للأرض؟ لاعلينا بما يحصل في أـماكن بعيدة من الكون ؛ لكن هل يمكن أن نشهد أرضاً بلا بشر؟ أراني في هذا الشأن ميّالة إلى جانب العالم البريطاني (جيمس لفلوك James Lovelock) واضع نظرية غايا ؛ فهو يرى أنّ البيئة الأرضية ميدان تفاعلي ديناميكي شديد الذكاء والتعقيد ، يعملُ على إعادة إصلاح مايخرّبه البشر في الأرض شرط أن لايفرطوا في التخريب الممنهج على نطاقات واسعة.
يمكن لرؤانا الميتافيزيقية - إذا ماإقترنت بدوافع النبل والجمال والخير - أن تكون دافعاً لعيش طيّب لن ينشغل كثيراً أمام ثلّة من المأزومين المبشّرين بسوء الطالع والخراب وانقراض الحياة البشرية.
أرضٌ بلا ناس هي والخواء سواء ، لاتصلحُ سوى لإستعارات شعرية إليوتية أو مادة لرواية خيال علمي مثقلة بديستوبيا قاتمة.