حيدر المحسن
العنوان ليس من صنعي، لكنه أمنية ذكرها القاصّ عبد الرحمن مجيد الربيعي في مقال نشرته مجلة الأقلام في سبعينات القرن الذي انقضى، ولكن لا شيء فيه يمكن أن يُنسى، لأن ما جرى في ثلثه الأخير سوف يكون له صدى في مستقبل العراق إلى أمد لا يقلّ -وتمّتْ استعارة الرقم عن الاستعمار العثماني للعراق- عن أربعة قرون، وإذا أزحنا موضوع الاستعارة جانبا، فإن المدى الذي خطّه “الرفاق” لمستقبلنا يتجاوز هذا الرقم بكثير.
لا أريد أن أختصّ بهذا الأدب، فلا طاقة لي أن أحمل ولو قطرة من محيط العذاب الذي أغرقنا فيه الأدباء الرفاق، والصدفة وحدها قادتني إلى البحث في أحداث صارت وانتهت.
الكتاب هو (شعراء خارج البيان الشعري) للناقد خالد علي مصطفى، ويفتتح الفصل الخاصّ بحميد سعيد بهذا الرأي: «الفن عند حميد سعيد هو تعبير جماليّ عن الخبرة الإنسانية أيّاً كان مأتاها”، وشاهده الأوّل في بحثه قصيدة “توقعات”:
«خذوا جلدي، مثل سلخ الشاة عرّوني،
انثروا لحمي، أمسحوا لعناتكم بدمي،
مررتُ عليكم في ليلة العيدِ
وكنتم تولمون على عيون أبي
مددتُ يدي... أكلتُ... عرفتُ أن طعامكم سمٌّ
وأن بيوتكم مبنيةٌ بعظام أهلي...».
هذا المقطع استشهد به الناقد كاملا، ولم أشطب شيئا قبله أو بعده، كما أن الفراغ في النصّ نقلته كما هو، فالأمر يتعلّق بالتّعبير الجماليّ عن الخبرة الإنسانيّة.
أقرأ القصيدة بعيداً عن التنظير الجمالي الذي يهواه النقد الحديث، ويبلغني منها أن الشاعر نقل تجربة حيّة في فنّ القصابة، ربما كان مشتركا بجديّة فيها، أو أنه تابع ما يقوم به القصّاب بحبّ ملك عليه كلّ جوارحه، وصبّ ما رآه في القصيدة: الجلد، اللّحم، الدم، العيون، العظام... هنالك تفسير آخر هو أن الشّاعر كان يرسم حفلة تعذيب من التي كانت تجري كلّ يوم في مكاتب حزب البعث الذي ينتمي إليه الشّاعر. هل كان يلبّي رغبة الربيعيّ في التأسيس لأدب بعثيّ؟ لا يمكن المجازفة بقبول هذا الرأي، لكنه يبقى معقولا إلى حدّ ما، في ضوء ما عرفناه عن تاريخ حزب البعث، وتجربته في طريقة حكم البلاد.
ليست لديّ قدرة التحمّل لأنقل الشّاهد الثاني على كلام السيد النّاقد كاملا، وهو مقطع من قصيدة عنوانها (من معلقات العصر):
«دونكم وجهي المتأرجحَ شُدّوا عليه بنواجذكم | أطفئوا السّؤالَ في مقلتيه | لَوّثوا سمتَهُ البدويّ رمادا وقارا | واغرسوا في سباخ أقاصيه شوكا... صُبارا | جرّروه مضاعا على الطّرقات وغلّوا يديه...». هل تحتملون المزيد من هذا الكلام؟ كان «الرّفاق” يعضّون علينا بنواجذهم طوال الوقت، ويطفئون السّجائر في عيون المعترضين، وإلى آخر طرائق التعذيب...
ما يميّز الشعر عن غيره هو أنه ينمو، ويمتدّ مع العصر، وكذلك النقد. بعد التّغييرات التي حدثت في العالم؛ سقوط جدار برلين، وتهاوي الاتحاد السوفياتي، والنّهاية البائسة للأنظمة الثورية العربية، بعد كل هذا لا يمكن لناقد يعيش في هذا الزمان، ويستجير بتعابير مثل “التغيير الثوري”، و»العنفوان التاريخي» و»التحريض على القتال». ثم يقول الناقد:
«كلا المقطعين في تينك القصيدتين، يسيران في اتجاه واحد في صيغة كلّ منهما: وهو الأمر المجازيّ الدالّ على التحدّي والتعجيز الموجّه إلى قومه الذين يُحبّون أن يأكلوا لحم أخيهم حيّا».
لغة الشّعر تغزو البحث النّقديّ. أليس كذلك؟ كما أن هذا يتماهى مع مراد الشّاعر، فهو لا يختلف في جوهره “عن الهجاء الاجتماعي، تحت لافتة الواقعيّة النقديّة ذات الأفق الأيديولوجي”.
كُتبت القصيدتان في السبعينات، ولم يضع ورثة الناقد الراحل تاريخا لبحثه، لكن هناك إشارات في الهامش تدلّ على أنه أُنجز في القرن الحالي. هل كانت استجابة متأخرة لطموح القاصّ الربيعي في تأسيس أدب بعثيّ وفق هذه المعادلة: شعر + نقد = أدب؟