طالب عبد العزيز
.. ومن البؤس أيضاً، إعتراض قبّة الزاهد محمد ابي الجوزي- أحد متصوفية أواخر القرن الثاني عشر للهجرة - والمبنية بالأجر والطين أعمالَ التوسعة التي تجريها البلدية على الطريق القديم، الرابط بين القرى التاريخية ومركز المدينة، لكنَّ البؤس كله يجتمع بالقبّة الجبسية، ولعلها من الستايربورد، التي حلت محل القبة القديمة، بعد أن زحزحت الجرافات موقعها الى جهة ما، بعيدة عن الطريق. المشهد الذي يؤسس لنوع جديد من الرثاثة في الزمن الرثَّ هذا..
يحتفظ الشيوخُ الخصيبيون في بيوتهم بصورة يتيمة للضريح، المشيّد في قرية كوت الضاحي، ليس بعيداً عن نهر الشعشاعي، الذي يدخله المد والجزر مرتين في اليوم والليلة. في الصورة قبتان طينيتان، قبة الشيخ، التي تلي الشارع مباشرة، أما الثانية المجاورة فهي لسريته. أحدثت السماءُ ثقباً بأحدى القبتين، فكانت الشمس تدخلها، والنجوم تطل فتضيء عالماً، لا يدخله إلا المجانين والنسوة اللواتي أضعن اطفالهن في المقبرة، المحيطة بالقبتين. منذ أكثر من ربع قرن، وأكثر ربما، اختفت قبّة السيدة، سريّة الشيخ، وبعد الحرب الأخيرة، قبل ثمانية عشر عاماً، بنى أحدهم، من الذين لم يجدواً بين النخل مأوى له بيتاً، في الفسحة التي شغرت بعد ضياع القبة نهائياً.
قد لانملك الكثير من المعرفة عن صاحبيّ القبتين، لكننا نحتفظ بالصورة الكاملة لهما، أو لها، فهي موقف باصات الخشب، ومحطة انتظار فلاحي القرى المحيطة الذين كانوا يرصفون سلالهم وزنابيلهم الخوص هنا، يتقون شموس القيظ المحرقة، ووريح صباحات الشتاء الباردة بما تبقى من ظلال الاثر، الذي لم يعد. الان تمسحُ ادارةُ الطرق والجسور القبة المتبقية، وتنسف الحجارة والملاط الذي لم تمحه مئاتُ السنين، والاستعاضة عنها بقبة الجبس، ولعلها قبة الستياروبورد، سيئة الصورة، فاقدة المعنى والأثر. الآن تقبع في الموضع هذا كتلة هلامية، بلا رسمة للجمال، منتزعة خارج منطق التاريخ.
نعم، لا تشير معارفنا الى شيء ذي بال عن الشيخ محمد ابي الجوزي، حياته وزهده وشيوخه والسنوات التي امضاها هنا وهناك، فما كتبه الشيخ عبد القادر باش أعيان في موسوعته (خطط البصرة) وما دونه صاحب السطور هذه في (قبل خراب البصرة) لا يتجاوز معرفه العامة به، ولن يكون بمقدور أحد رسم وجه نظر اخرى، إذ، انَّ الأحرف المكتوبة عنه، ورقائق السليلوز المبعثرة في استوديوهات التصوير، والمنشورة على المدونات الشخصية لن تضيف الى ما ذكرناه، لكن الصورة اليتيمة، الدالة على طريق أبي الخصيب – البصرة القديمة، ستقول لنا أشياء كثيرة، وستكون قبة الجبس، التي شيدتها بلدية البصرة باهتة المعنى، لا قيمة لها، ولن يقلب حجارتها أحد، لأنها بلا حجارة في الاساس، وهناك وجدان ضائع، يفصل بينهما زمنان، أحدهما مضيئ ومشع، وآخر مشوّه وقبيح.
سيكون مرور مركبات النقل بطيئاً هنا، وستتلفت العيون، تبحث في الفضاء المضطرب عن لحظة السكون التي كانت هنا، لكنها لن ترى شيئاً، فقد ذهب كل ما تأسطر بآذان وألسنة وأعين الناس، وستغمر مياه النسيان الآسنة حكايات الذين تبادلوا السكنى قرب الضريح- القبة، التي كانت اكثر من دالة على زاهد لم يأبه به احدٌ.