TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناديل: برج بابل والبارثينون

قناديل: برج بابل والبارثينون

نشر في: 8 أغسطس, 2021: 12:12 ص

 لطفية الدليمي

غالباً ماتجسد المباني التأريخية الأيقونية العملاقة حضور مؤسسات السلطة - سياسية أو دينية - وتعبّرُ عن قوتها وهيمنتها بامتلاكها العمل المعماري أو الفني الموروث من الحضارات السالفة ؛ غير أن الفنانة الارجنتينية الطليعية مارتا مينوجين ( المولودة عام 1941 )

والتي تُحسَبُ على اليسار الارجنتيني الراديكالي تعمل منذ عقود على مشروع فني هائل أطلقت عليه إسم ( سقوط الأساطير العالمية ) وهو سلسلة من الأعمال الضخمة التي تحتل الفضاء العام لتجسد ديموقراطية الفن المتاح للجميع . ترمي مارتا في مجمل أعمالها الفنية هائلة الحجوم للدفاع عن الديموقراطية التي صادرتها السلطة الديكتاتورية الكاثوليكية في الأرجنتين مثلما صادرت وشوهت حياتها وحياة مئات الالاف من مواطني بلادها .

كنتُ قد كتبت قبل ثلاث سنوات عن مشروعها الساحر ( برج بابل ) الذي أنشأت هيكله الحلزوني من الفولاذ وكسته بثلاثين الف كتاب من ثقافات عصرنا وبجميع لغات العالم وأقامته سنة 2016 في ساحة ( سان مارتن ) أكبر ساحات بوينس آيريس ؛ لكنها لم تتوقف عند هذا الحد بل مضت قدماً لتجسّد مفهوم ديموقراطية الفن في عمل مدهش يمثل معبد البارثينون الاغريقي في أثينا .

تخبرنا المصادر التاريخية أن النحات الأغريقي بريكليس هو الذي اقترح فكرة المبنى وأشرف عليه النحات فيدياس ، بين 447 و 432قبل الميلاد . تم تصميم المعبد ليضمّ تمثالاً ذهبياً ضخماً للربة أثينا ، وخلفه خزانة لاحتياطيات الفضة تحسباً لهجوم عدواني ، ويمكن صهر هذه المعادن الثمينة وتحويلها إلى عملات معدنية جديدة لتمويل الحرب ، ثم تحول المعبد في العصر الوسيط إلى كنيسة ثم إلى مسجد خلال عصر النهضة، ولطالما اعتبر الفكر الغربي مبنى البارثينون رمزاً للديمقراطية الأثينية والتفوق الثقافي الغربي . 

من هنا شاءت الفنانة مينوجين الاستيلاء على هذا الرمز الجمالي والسياسي للديموقراطية الأثينية لتعيد طرحه كنموذج ديمقراطي متاح للتداول الثقافي بعيداً عن الطابع الرأسمالي المؤسساتي ؛ فقامت في سنة 1983 إثر سقوط النظام الديكتاتوري الارجنتيني بجمع 25000 ألف كتاب ممنوع من الأقبية التي استخدمها الجيش في الفترة الديكتاتورية ومن الاشخاص وبعض المكتبيين والمتبرعين وغطّت بها الهيكل الفولاذي الذي صممته لمبنى البارثينون ، وتمّ كل ذلك ضمن مسعاها الفكري والفلسفي لاسقاط رمزية وقدسية الأساطير العالمية وتحويلها إلى رموز ديموقراطية مُشاعة .

تعيد الفنانة مارتا مينوجين بهذا المشروع إكتشاف القيمة الأولية للكنوز الجماعية التي تملكها الدولة ثم تعمد إلى تقويض الثراء الأسطوري لهذه المباني والكنوز التاريخية عبر توظيفها ثقافياً في مشاعية معاصرة خارج الهيمنة الثقافية المؤسساتية ، ولم يتوقف عملها عند إضافة دلالات ومعانٍ مستحدثة لهذه الأعمال حسب بل منحتها بإعادة إنتاجها قيمة تُعلي من حساسيتها كأعمال فنية متاحة ليتمتع بها الجميع في ساحات المدن .

تُحيي مينوجين بسلسلة أعمالها عن ( سقوط الأساطير العالمية ) - الذي بشرت به نزعة مابعد الحداثة - المشاركة الإنسانية وتذيب رأس المال التأريخي المشترك لتحوله إلى عملة ثقافية ذات مردود واسع الأثر .

أعادت الفنانة إقامة ( البارثينون ) في 2017 وسط أكبر ساحات مدينة كاسل الالمانية وجمعت – مائة الف كتاب لإكسائه وجرى الاحتفال بحضور مئات الكتاب العالمين الذين تعرضت أعمالهم للحظر ، وقام عدد كبير مابين شعراء وروائيين ومفكرين بقراءة مقاطع من كتبهم الممنوعة أمام الجمهور وتسلق البعض منهم أعمدة بارثينون الكتب وألقوا قصائدهم من أعالي رمز الديموقراطية الأثينية .

كانت النصوص المكتوبة بلغات لا حصر لها محظورة في فترات التشدد والشمولية وقد أحرق بعضها وتعرض البعض الآخر للمصادرة والتدمير الرسمي.

في حفل افتتاح البارثينون وسط مدينةكاسل أشارت الفنانة إلى أننا هنا ( نسدد ديون اليونان إلى ألمانيا فناً وزيتوناً ).

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: ماذا يريدون؟

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

لماذا نحتاج الى معارض الكتاب في زمن الذكاء الاصطناعي؟

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

 علي حسين عزيزي القارئ.. هل تعرف الفرق بين المصيبة والكارثة؟، المصيبة يمكن أن تجدها في تصريح السياسيين العراقيين وجميعهم يتحدثون عن دولة المؤسسات، وفي الوقت نفسه يسعون إلى تقاسم المؤسسات فيما بينهم تحت...
علي حسين

أزمة المياه في العراق وإيران: تحديات جديدة للاستقرار الإقليمي

د. فالح الحمــراني حذرت دراسة أعدها معهد الشرق الأوسط في موسكو من ان أزمة المياه بإيران والعراق المتوقعة في نهاية هذا العام قد تفضي الى عواقب بعيدة المدى، تؤثر على الاستقرار الاجتماعي في المنطقة،...
د. فالح الحمراني

العراق.. السلطة تنهب الطقس والذاكرة

أحمد حسن على مدار عشرين عاما، تحولت الثقافة في العراق إلى واجهة شكلية تتحكم بها مجموعات سياسية تدير المجال العام كما تدير المغانم. وفي ظل هذه الوضعية لم تعد الثقافة فضاء لإنتاج الوعي أو...
أحمد حسن

لماذا تهاجم الولايات المتحدة أوروبا بسبب حرية التعبير؟

فابيان جانيك شيربونيل * ترجمة : عدوية الهلالي «أعتقد أنهم ضعفاء. الأوروبيون يريدون أن يكونوا ملتزمين بالصواب السياسي لدرجة أنهم لا يعرفون ماذا يفعلون." لفهم الموقف الأمريكي تجاه القارة العجوز، يصعب إيجاد تفسير أوضح...
فابيان جانيك شيربونيل
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram