ستار كاووش
توقفتُ عن الرسم بعد أن لمحتُ جاري سيبراند قادماً من خلال الزجاج الذي يغطي النصف العلوي من باب المرسم، كان يرغب في رؤية لوحاتي الجديدة ويحدثني عن مزايا دراجته الكهربائية التي إشتراها مؤخراً، حسب ما أخبرني صباح هذا اليوم،
حين دار بيننا حديث قرب السياج الخشبي الذي يفصل حديقتينا. كانت بين أعمالي لوحة غير مكتملة، لكني رغم ذلك هيئتها مع الأخريات لأني أعرف بأن سيبراند سيبحث ويفتش هنا وهناك، محاولاً رؤية كل شيء حتى اللوحات غير المكتملة، لذا إختصرت الطريق ووضعتها في مكان يتيح له رؤيتها بسهولة. إقترب جاري وهو يمشي ببطء ويتمايل كعادته بقامته المديدة ولحيته الرمادية غير المشذبة ونظرته الشاردة، أشرتُ له بيدي مرحباً وفتحت الباب على سعته، ولحظة دخوله حدث ما أريد إخباركم به، شيء غَيَّرَ ذلك اليوم تماماً، وربما غيَّر شيء من تفكيري الى الأبد! فلحظة دخول جاري المرسم إنبثقت ذبابة بسرعة البرق وإنزلقت نحو الداخل وكأنها كانت بإنتظار فتح الباب، وأخذت تبث طنينها وتدور داخل المرسم. ظَلَّتْ تخطف أمام أبصارنا هنا وهناك ونحن نتطلع الى تفاصيل اللوحات وألوانها ونتحدث عن وجوه النساء التي علتها دوائر حمر شفافة قربتها من تقنية الألوان المائية. لم يبق سيبراند معي طويلاً، حيث ذهب مع زوجته يانكا التي إقتربت منا وأشارت له من خلال النافذة، ليمضيا سوية نحو مركز المدينة لشراء الجبن وبضعة قناني نبيذ من النوع الذي تحبه ابنتهما التي ستـزورهما هذا المساء.
أغلقتُ باب المرسم، فإنتبهتُ من جديد للذبابة التي بدأت بالطنين والدوران في أرجاء المكان، تتوقف لحظة وتدور لحظات، تستقر على حافة مسند الرسم، ثم تدور حول رأسي عدة دورات، لتحط هنا وهناك على سطوح اللوحات غير المكتملة. تهدأ قليلاً دون حركة، بلا رفة جناح ولا طنين، وفجأة تظهر من جديد لتطير قرب أنفي، ثم تلوح في أفق المرسم وكأنها صاحبة (المحل) وأنا الدخيل الذي تنتظر خروجه لتتمتع بكل حرية بالمكان وتفرش جناحيها في كل الزوايا. مرَّ الوقت بيني وبين الذبابة مثل المد والجزر ولم يتسع الوقت للرسم بهدوء مع هذا الطنين، لذا مددتُ يدي خلسة نحو جريدة قديمة كانت على الطاولة وطويتها عدة طويات وأمسكتها من طرفها وأنا أتابع حركة الذبابة، مَضَتْ محاولتين فاشلتين بالوصول اليها، وفي المحاولة الثالثة، حين رأيتها وهي تستقر على حافة احدى اللوحات صفعتها بالجريدة فهوت بسرعة على أرضية المرسم المليئة ببقع الألوان. حملتها (كأية ذبابة) ورميتها في سلة المهملات، وعدت للوحتي مرتاح البال، وإنشغلتُ برسم بعض التفاصيل ونسيت الأمر. لكني توقفتُ بعد قليل فجأة دون سبب، ثم عدتُ للرسم وانشغلتُ بالألوان، لأتوقف مرة ثانية لحظات وأنا أتطلع يميناً ويساراً ثم عدت للرسم، وفي المرة الثالثة عَدَلتُ عن الرسم مجدداً وأنا أتأمل المكان والسكون الذي علاه فجأة بعد التخلص من الذبابة، وتجولتُ ببصري في أرجاء المكان الصامت الذي خلا من كل صوت وحركة، فحاولتُ الرجوع الى الرسم، لكني تركته من جديد ووقفتُ وسط المرسم، وأخذتُ أفكر بتلك الذبابة (اللعينة). لقد كانت قبل لحظات تملأ المكان بصوتها وطيرانها وحيويتها المدهشة، لكني بسبب (كبريائي) وعدم صبري، أنهيت حياتها هكذا ببساطة وبضربة واحدة. مرَّت ساعة على ما حدث، لكني لم أستطع الرسم رغم محاولاتي العديدة، لذا توقفتُ وأنا أفكر بهذا الكائن الذي قضيتُ عليه ورميته بعنجهية وغرور وسط القمامة. سِرت من جديد نحو سلة المهملات، فرأيتها ترقد ساكنة جنب علبة عصير فارغة وخرق تنظيف صغيرة مضمخة بالألوان وقشرة موز وبعض النفايات الصغيرة. أغلقت سلة المهملات ثانية وإتجهتُ نحو لوحتي محاولاً المضي مع الرسم، وأنا أتأمل طبيعة الحياة وأفكر بقدرتنا على الإلغاء، وأدرك معنى المشاركة… حتى مع ذبابة! فكرتُ حتى بالطنين الذي كان يزعجني بسبب أنانيتي، وأدركت أنه ربما ليس من الصواب أن نمضي مع الحياة وحيدين دون تقاسمها مع باقي الكائنات. قد أبدو غريباً وأنا أقص عليكم هذه الحكاية، في الوقت الذي أحاول فيه العودة الى عملي دون حركة ذبابة كانت قبل قليل تملأ المكان بكل حيوية. لكني قبل أن أبدأ بالرسم من جديد، سأفتح الباب مرة أخرى، لعل ذبابة جديدة تدخل المكان ولو عن طريق المصادفة.