د. فاتن الجراح
عن دار المدى صدرت هذه الرواية المترجمة عن الفرنسية لامرأة أندلسية تحمل في أعماقها ندوب جراح التهميش التي لا تندمل
ورغم تخصصها في الطب النفسي لم تستطع تجاوز عقدتي الانحدار العرقي والطبقي وفي تقديمها للكاتبة كتبت المترجمة عدوية الهلالي تقول ( اللغة الفرنسية ليست لغتها الأم، فهي تتحدث لغة فرنسية متعثرة تشوبها اللهجة الإسبانية، وهو ما دعاها إلى اكتشاف اللغة الفرنسية من خلال الأدب، وربما كان امتيازها الأدبي هو انتقام المرأة الناضجة للفتاة التي تعرضت للمهانة بسبب هذا التقصير اللغوي، وعرفت الخشية من التهميش الاجتماعي على خلفية الانتماء إلى بيئة عمالية، وعلى خلفية النشأة في منزل بسيط كان يشعرها بالعار)
وفي روايتها هذه تقدم لنا سالفير بطلا يعاني من ذات العقدتين , اذ يعرف بنفسه و يقول (لأكون صادقاً، فقد بدأت في الخداع والتخفي منذ وقت مبكر، الخجل الذي كنت أعاني منه عندما كنت مراهقاً لأني من أب عامل وعلاوة على ذلك فهو إسباني، والخجل من نشوئي في مدينة على الجانب الآخر من المحيط، الخجل من التحدث بلغة فرنسية بائسة للغاية والخجل من تكرار اللهجة واللكنة الشعبيتين، كل هذه الأمور المخجلة هي التي تحكمت بي عندما أصبحت شاباً بالغاً، ودعتني إلى أن أخفي أصولي وأتحكم بقوة في حديثي وفي طريقة عيشي والمسار الذي من الممكن أن أحيد عنه دون معرفة أحد). ان أنس هو ليل أندلسي آخر يتقاطع مع شخوص هم أيضا ليسوا أكثر من ليالي تخفي تشوهات نفسية وفكرية ذات نزعات إجرامية تتضح عند احتدام الصراع مع البطل أنس الذي جاء خافيا مرضه ,ليكتشف أنه محور صراع يتصاعد والتوجهات السياسية في العالم وأنه في رحلة حياة مضطرا للهروب من جحيم الى جحيم مختلف .
تشير الكاتبة بوضوح الى الحملة الإعلامية التي رافقت انتخاب ترامب والتي أثارت العداء للمهاجرين ولاقت صداها لدى الشعوب الاوربية التي عانت من اشتداد توافد المهاجرين اليها .
ولتجسيد تلك الأفكار جعلت الكاتبة مقهى الرياضة لصاحبه لابلاس ميدانا لشحذ العداء للمهاجرين والغرباء الوافدين على القرية , تلتقي في هذا المقهى ىشخوص ركيكة مهزوزة وان بدت متسلطة. يكشف تصاعد الأحداث تاريخ تلك الشخصيات لنكتشف ان الزعيم لابلاس مجهول الأب ولا أحد يجرؤ على الإشارة الى هذه الحقيقة تجنبا للصدامات الفيزيائية ,اذ كان يتحكم بقوة قبضته بكل رواد مقهاه . لايقترب رواد المقهى من أنس ليتحققوا من أصله فيقودهم خيالهم الى كونه عربي مجرم وتزيدهم نساؤهم بمعلومة كونه متلصصا على نسائهم في حين أنهن في جلساتهن الخاصة يتغزلن بجماله كونه شبيها لعمر الشريف . وبهذا تدفع المؤلفة ليدي سالفير ببطلها الى اكتشاف حقيقة الغربة ,اذ جعلت أنس يقول (بدأت أتعود على تلك البديهية التي تقول: ان الغريب هو عدو طبيعي لكل التجمعات البشرية ).
لا تتجاهل الكاتبة المواقف الإيجابية للمواطنين من قضايا المهاجرين , القضايا التي تشكل صراعا فكريا محتدما في المجتمعات الأوربية . تعرض المؤلفة المواقف تلك عبر شخصيتي معلم اللغة الفرنسية جاك وعبر الشاب أوغسطين لابلاس الذي في نهاية القصة يقف بوجه والده الذي يتزعم فريق الحاقدين وان بعد فوات الأوان, وللتصادم الحاصل بين الشخصيتين كان متوقع نتائج وخيمة . اذ معروف عن الأب لابلاس البأس وكونه سليط اللسان غير أن حبه لولده منعه من ردة فعل عنيفة , فهو الشخص الأشد قساوة والمحرض الأول على طرد المهاجرين والمتعاطفين معهم .
كما صاغت الكاتبة شخصية الفتاة البدينة المهمشة مينا نادلة مقهى تتعاطف مع أنس وتبادله الحب , تلك المشاعر تعرضها للمطاردة والرجم من مجتمع يعتبر تعاطفها معه عهرا , وعدائهم للغريب عدلا .
يبدو لي أن سالفيير قامت بشئ أكبر من أن يكون سبر أغوار, شيء أتجرأ لأسميه تشريح نفسي لغرباء عانوا من التهميش , وهي ذاتها واحدة منهم ويتجلى ذلك بوضوح على لسان بطلها أنس (لقد تأكد لدي الانطباع بوجود عالمين هنا، عالمين تحيطهما الحدود بقسوة، عالمين متباينين، منفصلين تماماً، لا وجود للخلط بينهما، عالمين لا يمكن التوفيق بينهما، عالمين عدائيين خفية إذ تدور بينهما حرب سرية حتى لو أبدى كل منهما تجاهلاً لوجود الآخر، وحتى لو تظاهر كل منهما بعدم وجود أي أساس لكراهية الآخر، بل حتى لو تصنّع كل منهما ابتسام أكثر جاذبية وديمقراطية للآخر) .
وفي خطوة منه وللحفاظ على سلامة حبيبته مينا يلتقي أنس بعمدة المدينة ليتفاجأ بأن العمدة يعرف الكثير عن مواطنيه بل ويزوده بتاريخهم العائلي ويبدي تعاطفه معه , غير أنه يؤكد لأنس بأن مواطنيه ملتزمون بالقوانين .
بعث اللقاء بالعمدة بعض الأمل بنفس أنس فكتب يقول (كنت أنتظر رؤية مينا ثانية بنفاد صبرلا أعرف أين قرأت عبارة تقول: «الصبر هو فن الأمل) . غير أن الصبر في حالته لم يحمل مفتاح الفرج ولن يأتي بالراحة التي يبتغيها مريض بالسرطان مثله .
(تساءلت في سري: إلى من سألتجئ، من سيمنحني فرصة لأرتاح هنا؟ ما إن قلت لنفسي «أرتاح هنا » حتى قفزت إلى ذهني بشدة عبارة «هنا يرتاح.... » التي تكتب على شواهد القبور، ولكن على الرغم من هذا الترابط المشؤوم بين الأفكار، فقد بدا لي أن هذا هو أول سؤال معقول بالنسبة إلي منذ وصولي إلى هنا وقد تشبثت به).
وتأتي ذروة الحدث بمطاردة الحبيبين كادت أن تنهي حياتيهما على يد (الملتزمين بالقوانين ) وهنا يحق لنا أن نتساءل هل حقا كان القرويون ملتزمين بالقوانين أم أن خطاب ترامب صعد التوتر خارج حدود دولته ؟.
ولكي يبقى حيا وبرفقة حبيبته مينا يتخذ القرار وكما هو مدون في خاتمة القصة ( العيش بالقرب من الحدود أكثر راحة لسهولة الفرار )
وان كانت المؤلفة قد حققت على الصعيد الشخصي نجاحا فان شخصية البطل الذي عرضته لنا شخصية متجنبة للاصطدام ميالة للرومانسية وقد تكون صفة أندلسية متوارثة . من خلال حبكتها هذه تناقش سالفير الاقصاء والتهميش العرقي والطبقي فتكشف عن مشاكل المجتمعات الديمقراطية التي سنت قوانينا متطورة غير ان شعوبها لم ترتقي فكريا ونفسيا لتقبل تلك القوانين والالتزام بها .
لقد قدمت المترجمة ودار النشر رواية يراد لها ان تكون ناقوسا للتحذير من مخاطر الهجرة التي تفاقمت بفعل الاضطرابات السياسية والاقتصادية لشعوب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا, فكان العديد من المهاجرين لقمة سائغة لحيتان البر والبحر , ولكي تسهم المؤسسات الإعلامية والثقافية بنشر الوعي بين الشباب الساعي لنيل حقوق المواطنة والساسة الذين تسببوا بخراب بلدانهم علهم يلتفتوا للحفاظ على مستقبل بلدانهم .
شكرا صديقتي عدوية الهلالي تقديري العالي لجهدك الرائع والشكر والعرفان لدار المدى بإصدار هذه الرواية المهمة .
و لكن يبقى السؤال المطروح هل نحن ليالي ؟ أم لكل منا ليل ؟ أظن أننا ليالي, سواء كنا في المنافي أم في غربة الوطن .
جميع التعليقات 1
نوال يوسف 125f74
عرض رائع…احسنت الطرح د.فاتن