حيدر المحسن
مرّت قبل أيّام ذكرى رحيل الشّاعر الذي حقّق لنفسه وهو يغادرنا نسيانا خالدا، وحقّق حضورا خالدا في الوقت نفسه. النّسيان والحضور، الصّمت والصّخب، السّكون والحركة المندفعة، وغير ذلك من ثيمات مبنية على تناقضات لا تعرف الرحمة حفلت بها حياة الشاعر، وتميّز بها شعره كذلك. هل كان يريد إثبات أن الحياة في الأخير ليست سوى لوحةٍ تشبه رقعة شطرنج، لا يتجاور فيها لونان متشابهان أبدا؟
نقرأ في إحدى قصائد حسين عبد اللّطيف وصفا لغيابه الأخير. الشّاعر وهو حيّ يصف موته، وهذا تضادّ آخر يضيفه إلى سجلّه في التّباين والاختلاف:
من بيتي.../ وإلى/ أين/ تجري خببا... هذي العربه/ ما أغربها... عربه/ ما أغرب هذا من عنوان!
وجّهتُ دعوة إلى الشاعر لزيارة بغداد في صيف 2013، على أن يحلّ ضيفا عليّ، وكان الغرض قراءة دواوينه التي تزدحم فيها الأخطاء الطّباعية والتّصميمية، خصوصاً مجموعته الثانية، نار القطرب، حتى أن لوحة الغلاف التي صممها الفنان خالد خضير أعتمت فيها الحروف، واختلط اللونان الأسود والأبيض فيها، وصارا كأنما من طبيعة واحدة.
وصل الشّاعر يوم الجمعة، وكان يرافقه شابّ اسمه “علي”. أفطرنا على عجل في حديقة البيت، وتوجّهنا مباشرة إلى شارع المتنبي. كانت صحّة الشّاعر غير مطمئنة، فمرض السكّري أضعف بدنه كثيرا، وكان يتكئ عليّ في أثناء سيره، لكنه أصرّ على أن نتجوّل في المدينة التي تنفجر فيها العبوات والقنابل على الجيش الأمريكي في كلّ مكان. كنت في بالغ القلق على شاعري وضيفي، الشمعة التي لم يبق منها إلا القليل...
سرنا بطيئين، نتكلم عن الشعر وعن السياسة التي لا يخلو منها أيّ حديث. هذه المدينة تعيش أزمانا سعيدة، ثم تزحف عليها الجيوش من كلّ مكان وتستبدل مجد سعادتها بالذلّ الذي تسبّبه الحرب. كان الجوّ شديد الحرّ، وبدا الشاعر منهكا وهو يتأمل نوافذ البيوت البغدادية الخشبية -الشناشيل- وقد استبدلها الساكنون بألواح من الصّفيح الصَّدِئِ، تشهد بوضوح على مجد المدينة الزّائل. كلّ شيء هنا خراب، أو أنه في طريقه إلى الخراب. ظلّت المآذن وحدها محتفظة برشاقة بنائها، والنّقوش بالأزرق الفيروزيّ على القبّة تعطي صورة أرضيّة لألوان السّماء التي تسبح في مياه دجلة القريب، وأسراب الحمام تدور في غمامات بنفسجية فضيّة. بعد جولة في شارعي الرشيد والمتنبي عدنا إلى البيت، وكانت المدينة تكتم أنينها، وكذلك الشاعر.
كان برنامج القراءة يبدأ في الفجر، وكنا نتناوب عليها أنا والشابّ “علي”. طوال أربعة أشفاق وصباحات ظلّ صوت الشّعر يتردّد قويا بين أشجار الحديقة، وكان الشّاعر يجلس بيننا مثل إله تنطق بدلا منه قصائده للعذوبة والجمال أن يكون، فيكون. صحّحتُ الأخطاء في الدّواوين الخمسة، وكتبت هوامش مفيدة. في صبيحة يوم الثلاثاء غادرني ضيفاي، وكانت أربع ليال مليئة بالنقاش والقراءة. كم يبدو ذلك اللقاء بعيدا، لفرادته، مئات ومئات السنين تحجبني عنه:
لا أحد الآن.../ سوى البحر الذي يفحّ جلدُهُ/ بالملحِ والهديرْ/ لا أحد الآن.../ إذن/ هو الأخير/ من التخوم، والأخيرْ/ من كلّ حدْ
في القصيدة غنائية مركّبة، إذا صحّ التعبير، فالأبيات القصيرة، والإيقاع البطيء، بالإضافة إلى روح النثر الغالبة تجعل من المستحيل تأليف نصّ حافل بالموسيقى الصّاخبة والصمت العميق معا. في قصائد الشاعر، مثل قطار الحمولة، ونار خضراء، وغيرها، يكتشف القارئ وجود عالمين أحدهما ساكن، والآخر متحرك باندفاع مثل قطار يمضي بركّابه مسرعا. التناقض إذن هو السرّ الأهمّ في شعريّة حسين عبد اللطيف، والذي لم يتمكّن أحد من الشّعراء العراقيين أو العرب الكشف عن السّبيل إليه، وهكذا جاءت قصائده فريدة في نوعها، وعصيّة على التقليد، والطريق الذي اختطّه لنفسه لا يحمل حتى الآن آثارا غير تلك التي نقشتها عليه خطواته.