أب يفقد أبنته أمام عينيه بـ"دكة خاطئة" والجناة يتعهدون بتعويض مادي!
بغداد / أمير النعيمي
طفلة ذات الـ 10 سنوات، كانت تستمتع باللعب مع أخوتها، وسط أجواء من الفرح تغمر المنزل وأصوات قهقهة تغطي أنين الأجواء اللاهبة في صيف تموز، لم يكن في الحسبان أن شيئا ما قد يعكر هذه الأجواء،
ولكن في العراق كل قاعدة أو فرضية قابلة للكسر، حيث الحزن يدوم والفرح لا يستمر طويلاً، فها هي طفلتنا ذات الـ10 سنوات تسقط أرضاً وتنقطع ضحكتها برصاصة "خطوة" عشائرية أطفأت شمعة عائلة لا ذنب لها سوى أنها تعيش في بلد تعلو فيه سلطة العشائر على القانون! والد مريم (41 عاماً) يسكن العاصمة بغداد، يروي قصة مقتل أبنته أمام عينيه، حيث يقول وملامح الحزن تبدو جلية على وجهه الشاحب "في شهر تموز قبل سنتين، كل شيء كان على ما يرام، أنا وأخي جالسان نتحدث في بعض الأمور، أبنتي (10 سنوات) تلعب مع أخوتها وأبن عمها في باحة المنزل، لا مشكلة لدينا مع أحد". ويضيف في حديثه لـ(المدى)، "سمعنا فجأة صوت إطلاق نار قريب جداً.. كأن الرصاص مطر علينا من السماء، لا نعلم ما يجري، أصبحنا نتهافت لدخول الغرف، وإذا برصاصة من تلك الرصاصات تصيب رأس أبنتي لترديها جسداً بلا روح".
ويستدرك أبو مريم، "قتلوا أبنتي ثم جاءوا ليقولوا إن الحادث لم يكن مقصوداً، وإنهم اخطأوا عنوان المنزل المطلوب، وما حدث هو قضاء وقدر، وإنهم مستعدون لدفع الفدية!".
ما حدث لأبو مريم، تكرر مع مئات العراقيين منذ عام 2003 ولغاية الآن، فما تسمى بـ"الخطوة العشائرية" (الخطأ العشائري)، أتعبت وأنهكت وشردت الكثير من العائلات وقلبت حياتهم إلى جحيم.
رعب!
بينما كان أبو يزن (30 عاماً) يلاعب طفله ذا الـ(4 سنوات)، سمع صوت وابل من الرصاص، قائلا: "زجاج منزلنا تحطم، وحدثت أضرار في الواجهة.. لحظات كانت مرعبة". ويضيف أبو يزن في حديثه لـ(المدى)، "عندما خرجت لمعرفة ما يجري، بعد توقف عملية إطلاق الرصاص، رأيت عجلة دفع رباعي تسير بوتيرة شديدة السرعة خطفت قرب دورية للشرطة دون أن تتحرك سيارة النجدة لمعرفة تفاصيل الحادثة!".
ويبين، أن ما جرى كان دكـة عشائرية لمنزل يجاور منزله، لكن بعض الرصاصات أصابت بيته.
خسارة
من جانبه، لم يكن علي شهاب (27 عاماً)، يتوقع أن يخسر بسهولة أمواله التي عمل على ادخارها طيلة فترة أربع سنوات؛ لشراء سيارة توصله لمكان عمله من شرقي العاصمة بغداد، حيث منزله، إلى وسطها وتحديداً منطقة الكرادة التي يعمل بها حارساً لمخزن تجاري.
ويبين شهاب في حديث لـ(المدى)، إنه كان يدخر أموالاً لشراء سيارة له، وعلى مدى أربع سنوات، تمكن من جمع مبلغ يتيح له تحقيق هذه الرغبة، "اشتريت سيارة نوع هيونداي، لكنها لم تدم طويلاً، فسرعان ما أحرقتها رصاصات خطوة عشائرية لم يبقِ منها سوى هيكل متفحم"، مؤكداً أنه وأبناء عشيرته توصلوا إلى الفاعلين، وأقاموا ما يعرف بـ"فصل عشائري" لكنه لم يحصل إلا على ما يقارب ربع قيمة سيارته.
تبعات الخطوة العشائرية
الشيخ صدام العطواني (أحد شيوخ العشائر في العراق) يقول إن "مرتكب الخطأ يجلس وأبناء عشيرته مع عشيرة المتضرر، ليقرر خلال تلك الجلسة تحديد ما يترتب على المخطئ من تبعات".
ويوضح العطواني، في حديث لـ(المدى)، أن "التبعات إما تكون قانونية كرفع دعوى قضائية، أو عشائرية كدفع مبلغ مالي، أو سحب السلاح (إذا كانت دكـة عشائرية)".
"في حال كان هناك ضحية نتيجة خطأ عشائري، قد لا تقبل بعض العشائر بـ"الفَصل" بل تعمد إلى الرد عبر قتل الجاني"، وهذه الحالة غير شائعة بشكل كبير لكنها موجودة، بحسب الشيخ العطواني.
العقاب القانوني
الخبير القانوني علي التميمي، يقول إنه "بموجب توجيه مجلس القضاء تعتبر الدكة العشائرية (حتى وإن استهدفت المنزل الخطأ) عمل إرهابي تطبق عليه المادة ٤ من قانون مكافحة الإرهاب؛ وذلك لانطباق التعريف الوارد في مادة ٢ من هذا القانون على هذه الأفعال التي تحدث الرعب والخوف في نفوس الناس ولا تطبق على الدكـة العشائرية مواد التهديد ٤٣٠ ، ٤٣٢ ق ع كما كان سابقاً". ويلفت التميمي في حديث لـ(المدى)، إلى أن "هذه الشكاوى تحال بموجب ذلك إلى الجنايات وليس الجنح وعقوبتها تصل إلى الإعدام أو المؤبد وفق المادة ٤ إرهاب"، منوهاً إلى أن "هذه الأفعال أصبحت غير قابلة للكفالة كما كان سابقاً بموجب المواد ١١٠ اصولية وما بعدها، وغير قابلة للصلح لوجود الحق العام بها وفق المواد ١٩٤ وما بعدها من الاصول الجزائية". وعن إمكانية السيطرة على مثل هكذا حالات، يؤكد الخبير القانوني أن "السيطرة لا تتم إلا في حال تفعيل قانون الأسلحة ٥١ لسنة ٢٠١٧".
الداخلية وسياسة المواجهة
وزارة الداخلية انتهجت سياستين لمواجهة النزاعات العشائرية، الأولى تمثلت بزج قوات النخبة في المناطق التي تكثر فيها النزاعات، فتصرفت بجدية وحزم وسرعة وقوة، وحققت نتائج نوعية، أما الثانية فكانت عبر تكثيف حملات التوعية والتثقيف من خلال مديرية شؤون العشائر والشرطة المجتمعية وقسم الإعلام والعلاقات في الوزارة بالتعاون مع بعض شيوخ ووجهاء العشائر، وذلك بحسب ما تحدث به الناطق باسم وزارة الداخلية، اللواء خالد المحنا.
ويؤكد المحنا في حديثه لـ(المدى)، أن "تلك السياستين أسهمتا بشكل كبير في تقليل النزاعات العشائرية مقارنة بالسابق".
انفلات وسطوة على القانون
المراقب الدولي لحقوق الإنسان في الشرق الأوسط، المرتجى الكعبي، يرى أن "العشائر العربية وجدت قبل الدول، ووضعت لها أصول وضوابط لا تزال سارية في معظم البلدان العربية وعند الاصلاء من عشائر العراق، لكن عندما يحدث انفلات وسطوة على القانون بسبب بعض الذين ينسبون انفسهم للعشائر العراقية فهذا سببه ضعف الحكومات". ويرى الكعبي في حديث لـ(المدى)، أن "العراق مر بفترات حكم منضبطة جعلت دور العشائر يقتصر على حل المشكلات ومساعدة الدولة في بعض الأمور النفعية". ويعتقد المراقب الدولي، أن "الانفلات الذي حصل بعد عام 2003 دفع الكثيرين للتجاوز على الشرع والقانون والأعراف العشائرية السائدة، حيث ظهرت عادات دخيلة على مجتمعنا وعشائرنا، كما استفحلت ظاهرة الشيوخ المأجورين، وسط عجز حكومي عن وضع حلول ناجعة تقوي سلطة القانون".
ويشدد الكعبي على "ضرورة تعاون أجهزة الأمن مع شيوخ ووجهاء العشائر وممثلي المرجعيات الدينية لردع كل من تسول له نفسه المساس ظلماً بأبناء الشعب".
طموح بالعدالة والقانون
بدوره، يشدد الباحث الاجتماعي، عبدالمنعم الشويلي، على أن المجتمع يحتاج دائماً وأبداً إلى فرض سلطة القانون وهيبته وتطبيق العدالة التي يطمح لها كل من يرغب بعيش رغيد ووطن آمن. ويقول الشويلي في حديث لـ(المدى)، إن "ضعف تطبيق القانون لأي سبب كان وعدم تمكن السلطة التنفيذية من فرض قوتها على المجتمع يجعل الامور تتجه الى البحث عن سلطة أخرى يراد منها أن تحمي الفرد المنتمي إليها، وعند ذلك يصار الى فرض الارادات، بالقوة احياناً، ومثال على ذلك هي بعض الأفعال العشائرية كـ"الدكـة" التي بدأت كتنبيه للغافل عن أداء حق ما عبر إطلاقات قليلة جداً في الهواء، حتى وصلت إلى ما وصلته اليوم من خروجها عن المألوف فأدى ذلك إلى سقوط ضحايا وإحداث أضرار مادية كبيرة".