يرى أن الكتابة القصصية والروائية هي تأويل للواقع أما الكتابة النقدية فهي تأويل على تأويل
حاوره: علاء المفرجي
ولد في بغداد عام 1949 واكمل دراسته الاولية والجامعية فيها، حيث حصل على شهادة البكالوريوس في الرياضيات من جامعة بغداد.. وعمل في التعليم قبل أن يغادر العراق منتصف السبعينيات من القرن المنصرم الى الجزائر (وهران) حيث عمل في التدريس ضمن البعثة العراقية لنحو 10 سنوات قبل أن يغادر إلى لندن ويستقر فيها عام 1985. درّس الترجمة التطبيقية عامين في جامعة ويست مينستر في لندن وعمل في الصحافة.
اصدر عدة مجاميع قصصية هي: رمية زهر، والعبور الى الضفة الاخرى، واحلام الفيديو، ولعبة الاقنعة، وحين تغيرنا عتبات البيوت.. كما صدرت له رواية (كوميديا الحب الألهي) وأصدر كتاباً بعنوان (مفكرة بغداد) وكتاباً مترجماً بعنوان (خيانة الوصايا).
القسم الثاني
التاريخ كان حاضرا بقوة في كوميديا الحب الالهي.. هل تعتبرها رواية تاريخية .. ولماذا شهد برأيك هذا النوع من الرواية انحسارا في الرواية العربية والعراقية بشكل خاص؟
- الروايات بشكل عام تتحرك بين قطبين هما التاريخ والفن. هي مثل البندول الذي يتأرجح بينهما. وأغلب الروايات الكبيرة كان التاريخ فيها أشبه بالخلفية التي من دونها ستصبح نصاً شبحياً. إذا أخذنا روايات بلزاك على سبيل المثال سنجد أنها كتبت خلال الفترة التي أعقبت انتهاء الحروب النابوليونية الكارثية بأكثر من عشر سنوات، وكانت تبعاتها هائلة مثلما هو الحال بالنسبة للعراق بعد الحرب العراقية- الإيرانية. عالم فرنسا المهتز اقتصاديا وسياسيا ونفسيا وأخلاقياً الذي خلفته تلك الحروب شديدة التكلفة ظلت آثارها قوية على المجتمع الفرنسي لأكثر من نصف قرن، وفي ظروف مضطربة كهذه تُظهر الشخصيات ما فيها من مكنونات، وبلزاك استطاع أن يرصد الكثير مما أفرزته تلك الفترة.
نفس الشيء مع دوستويفسكي، فهذا الكاتب الذي بدأ اشتراكياً يؤمن بالتغيير الثوري عبر العنف، صدر ضده حكم بالاعدام بتهمة محاولة اغتيال القيصر. ولم يأت العفو عليه إلا في آخر لحظة ليقضي بدلا عن ذلك الحكم سنوات أربعاً في السجن وستاً أخرى في الخدمة العسكرية الإجبارية في المنفى. وكانت النتيجة أن تغيرت قناعاته الفكرية تماماً خلال هذه العشر سنوات التي قضاها بعيدا عن مدينته بطرسبرغ. ففي رواية الجريمة والعقاب التي كتبت خلال الستينات من القرن التاسع عشر يمكننا تلمس تلك المرحلة عبر الأفكار الفلسفية التي استثمرها دستويفسكي عن البطل التاريخي الذي عبر عنه هيغل والمفكرون الثوريون، فكأن الرواية صدى لأفكار تلك المرحلة التي تجسدت لاحقا خلال القرن العشرين: فالبطل التاريخي يحق له قتل الملايين إذا كان ذلك يتماشى مع الضرورة التاريخية وهو صاغ شخصية بطله راسكولينكوف كنوع من الباروديا (المحاكاة الساخرة)، فهو الآخر يريد مساعدة الآخرين من خلال قتل العجوز المرابية وسرقة مالها.
أستطيع القول إن ما تعنيه الرواية التاريخية هي تلك التي تتناول زمنا قديما جداً فيكون إعمال الخيال بخلط الحقائق التاريخية القديمة بشخصيات وأحداث متخيلة، لكن حتى مع هذا الصنف من الروايات نجد الكاتب على الأغلب يرغب في إثارة مسألة معاصرة عبر روايته التاريخية وربما أفضل مثال على روايات كهذه «سمرقند» و»ليون الأفريقي» لأمين معلوف.
في هذه المعادلة بين الفن والتاريخ: كلما اقتربتَ أكثر مما ينبغي من التاريخ ابتعدت الرواية عن أن تكون فناً، وكلما اقتربتَ أكثر مما ينبغي من الفن بعيدا عن التاريخ فقدت تلك الخلفية التي تمنحها أبعادها الثلاثة. وربما روايات إيتالو كالفينو تميل إلى هذا الصنف.
ربما ما يميز العراقيين عن غيرهم هو كثرة التحولات السياسية والهزات الاجتماعية القوية وتعدد الكوارث خلال فترة زمنية لا تتجاوز أربعة عقود. لذلك فإننا نجد لكل مرحلة مؤثراتها على الجيل الجديد لحظة بلوغه سن المراهقة أو سن الرشد، هذا التغير المستمر في وجوه الحكام والأنظمة والقوانين تجعل الإشارة إلى هذه المرحلة أو تلك (على قصرهما) وسيلة لتوفير الخلفية التي يمكن إقحام شخصيات وأحداث متخيلة فيها.
مقالاتك الطويلة التي تكتبها في بعض الصحف العالمية وبالاخص تلك التي تهتم بالتاريخ العراقي والسياسة، هل كان لها أثر في الدفع باتجاه هذا النوع من الرواية اعني الرواية التاريخية.
- أغلب المقالات كتبت بعد صدور «كوميديا الحب الإلهي». وربما بفضل البحث الشاق والطويل الذي استلزمته كتابة فصل عن شخصية عملت في البلاط الملكي، تكونت لدي معرفة توثيقية عن تلك المرحلة من خلال قراءة العديد من مذكرات وجوه بارزة مثل محمد حديد وروفائيل بطي وقراءة دراسات تاريخية عن العراق من بينها أربعة قرون من تاريخ العراق، وثلاثة ملوك، والعراق لحنا بطاطو بأجزائه الثلاثة، وكتاب عن معروف الرصافي للدكتور يوسف عز الدين وكتب أخرى بالانجليزية. وبالطبع الهدف هو ليس لاقتطاف نصوص منها ووضعها في الرواية بل هو لسماع صوت ذلك العصر والتعرف على شخصياته. كذلك هو الحال مع الفصلين القصيرين عن ابن عربي، الذي تطلب مني قراءة أجزاء كثيرة من «الفتوحات المكية» و»فصوص الحكم» وما كتبه أساتذة غربيون متخصصون في التصوف وكتبوا عنه مثل وليام تشيتك ومايكل سيلز. في قراءتي لابن عربي اتبعت نصيحة العلامة الفرنسي المستشرق هنري كوربان مؤلف كتاب «الخيال الخلاق في تصوف ابن عربي» حين قال إنه من الضروري أن يصبح المرء مريدا لابن عربي مؤقتا إذا أراد فهمه، ثم قراءة كتاب «سيرة ابن عربي» للباحثة الفرنسية كلود عداس المترجم إلى الانجليزية عن الفرنسية، وكان كتاب أمين معلوف «تاريخ الحروب الصليبية» أفضل مدخل لمعايشة تلك الحروب كما تصورها ابن عربي.
الرواية باعتقادي يجب ألا تكتفي بأن تكون صدى لأحداث العصر بل للأفكار الكبرى السائدة فيه، أو لبعض منها، فنحن البشر في نهاية الأمر أفكار تمشي على قدمين.
تركت العراق مغادرا الى الجزائر في وقت مبكر، وكانت رحلة طويلة لم تنته الى الآن، استغرقت زمنا ومدنا، هل أسهمت هذه (الرحلة) في التأثير على ابداعك وخاصة مستقرك الاخير (لندن)؟ وبأي اتجاه كان تأثيرها؟
- للجزائر موقع خاص في كياني، ولوهران بالذات مكانة في روحي، ومغادرتي لها تركت فجوة ما زالت قائمة في سياق حياتي· حينما غادرت الجزائر عام 1985 لم يكن يدور ببالي أنني لن أعود إلى أشيائي التي تركتها ورائي أو أنني لن ألتقي بالأصدقاء مرة أخرى·
أستطيع أن أعترف اليوم أنني مدين للجزائر بالتحوّل تماما إلى الكتابة القصصية· وهذا من دون شك كان بفضل المناخ الرائق المملوء بالآمال الذي كانت الجزائر تعيش فيه: البحر وأجواء العمل الحميمة والصحبة الجميلة مع زملاء وطلاب وأصدقاء كانت كلها وراء إعادتي إلى الكتابة التي تركتها منذ أيام الدراسة الجامعية. لا بد أنني كنت مسكونا بكامو وكاتب ياسين وسعدي يوسف ومالك حداد والطاهر وطار في خطواتي داخل هذه المدينة التي غيّرت للتو أسماء شوارعها وخرائطها وإشاراتها وأسماء محلاتها بين ليلة وضحاها، متبنية هوية ولغة جديدة.
لعلّي أستطيع القول إن الشبوبية التي كانت تتداخل في هواء وهران وتدفق الحيوية في دماء الشباب وهم يمضون على جبهة البحر أو في شارع العربي بن مهيدي أو على الشواطئ الكثيرة الممتدة بجوار المتوسط، كانت توحي بعالم متحرّر من قيود ماضيه مثلما هو الحال مع الشرق الأوسط، والعراق مثل على ذلك. هناك تعود أحداث مر عليها أكثر من ألف سنة وكأنها جرت أمس لتستمر في صياغة الحاضر. أو تلك القيود التي تمثلها العادات والتقاليد فتدفع الشباب صوب نشاط واحد مقبول اجتماعيا: العمل السياسي والارتباط بالأحزاب السياسية. هنا في وهران بدا لي العالم وكأنه خلق للتو، غضا وجميلا وبريئا ومتدفقا. هل أقول إنني تذوّقت البهجة الحقيقية في وهران لأول مرة في حياتي؟ البهجة المتحرّرة من التاريخ والماضي والأحزاب السياسية المتحاربة. ولا بد أن ذلك جعلني أعيد النظر بتجربة حياتي في العراق حتى تلك اللحظة، وأصبحت الكتابة في البداية وسيلة لفهم أسباب الأزمة العميقة التي كان يعيشها العراق في النواحي السياسية والثقافية والاجتماعية.
أشك أنني كنت سأصبح كاتبا قصصيا لو أنني لم آت إلى الجزائر وأقيم في وهران. فهذا النوع من الكتابة يحتاج إلى نوع محدد من النشوة الروحية وتوق عميق للحياة بمتعها الأولية البسيطة: لون السماء والبحر والبيوت ذات السقوف القرميدية الحمراء والأمسيات الحافلة بالموسيقى والجدل. كانت وهران آنذاك مدينة كوسموبوليتية بجدارة، فالكثير من الكوادر اليسارية الغربية والمشرقية جاءت إليها وعملت في معاهدها وجامعاتها ومصانعها، فأنت بدلا من أن تسافر لاستكشاف شعوب أخرى أتاحت وهران فرصة للالتقاء بأفضل الشخصيات الملتزمة من شتى أنحاء العالم. كان هناك أطباء من أمريكا اللاتينية ومهندسون من ألمانيا الغربية وأساتذة من فرنسا وغيرهم.
خلال كل سنوات عيشي في الجزائر لم أذهب إلى أوربا سوى مرتين ولأغراض عائلية، فما كان في الجزائر أجمل من أن يعوضه أي بديل في العالم.
أتذكر أني كتبت خلال سنواتي الأولى في وهران رواية حملت عنوان، «زمن الأوبئة»، وكانت على وشك أن تُنشر في بيروت، لكن الغزو الإسرائيلي تسبب، لحسن الحظ، في ضياع النسخة التي أرسلتها للناشر، ومع مرور فترة اكتشفتُ أن هذا الصنف من الكتابة القائمة على تصفية الحسابات أو الكشف المعرفي لوضع سياسي أو اجتماعي مكانه خارج الأدب القصصي، فقمت بإتلاف المخطوطة.
لعل تلك التجربة جعلتني شديد الحرص على ما أنشر، وهذه التجربة تكررت مراراً منحتها عنواناً مشتركاً: تمارين كتابية!
لقد جاءت كوارث التسعينيات لتوقظني من وهمي بأن الجزائر(ودول المغرب العربي بشكل عام) محصّنة ضد الماضي. لكن الماضي الذي انتقل إليها من الشرق الأوسط تمكّن أخيرا من التغلغل في روحها، ليُدخل أبناءها في نفس المعمعة القائمة في الكثير من مجتمعات المشرق.
أما بالنسبة للندن فمن الصعب أن أحدّد بالضبط ما وفّرته لي هذه المدينة. لا بد أن الشعور العميق بالنفي هو الذي تشكل في أعماقي: النفي من العراق جنبا إلى جنب مع النفي من الجزائر، فلسنوات عشرٍ كنت عاجزا عن مغادرة بريطانيا. لكن فرص العمل في مجالات أخرى كالكتابة إلى الصحف والمجلات العربية والتدريس لساعات متفرقة في بعض المعاهد المخصصة للراشدين أتاحت لي ارتباطا مزدوجا بالوسطين العربي واللندني. كذلك كان الشعور العميق بالمجهولية في مدينة تمتد أفقيا بقطر يصل إلى 80 كيلو مترا، يجعلك قادرا على أن تعيش في مسكنك لأشهر من دون أن يطرق شخص ما بابك. إضافة إلى ذلك، بدأت أتحوّل في قراءاتي تدريجيا إلى الإنجليزية وهذا ما فتح لي بابا واسعا للتعرف على الكثير من الكتّاب الذين سبق لي أن قرأتهم مترجمين بشكل غير مكتمل إلى العربية. الشيء الأساسي الذي توفر في حياتي هو الاستقرار، لا بالمعنى الشخصي، بل لأول مرة أعيش في بلد لا تتغير سياساته كل سنتين أو ثلاث ليدفع بأبنائه ذات اليمين وذات الشمال. وبالتأكيد لم يكن ذلك ثمرة لجهود الأفراد؛ بل هو ثمرة زمن طويل استمر قرونا تم خلاله تشكل الدولة ومؤسساتها العريقة. لذلك، فمن يريد أن يقارن الحاضر السائد في العراق أو في أكثر من بلد عربي قد يحتاج إلى العودة إلى بريطانيا القرن الخامس عشر وبدايات القرن السادس عشر ليفهم أن ما تحقق اليوم لم يأت هبة من دون أن يأخذ مساره التاريخي بالكامل.
حينما تدخل إلى مكتبة جامعية تكتشف الفيض الهائل من الكتب التي يمتد حيزها لعدة قرون. هنا يجلس الكتّاب الموتى والأحياء يتطلّعون إلى القرّاء العابرين متوسّلين أن يمدوا أيديهم لكتبهم الساكنة وسط هدوء الأبدية البارد. هذه المكتبات الغاصة بالكتب الممتدة قروناً ساعدتني على فهم التواضع الذي يمتلكه المبدعون في شتى المجالات هنا، فهم في أعماقهم يشعرون بأنهم ليسوا سوى قطرات في نهر واسع وطويل من الإنتاج الأدبي والعلمي والفلسفي سبقتهم أجيال وأجيال وستتبعهم أجيال وأجيال أخرى في إغناء هذا النهر.
إلى جانب الرواية والقصة، عملتَ في الترجمة، ترجمة مقالات، الترجمة الأدبية، وكان اصدارك المترجم ”خيانة الوصايا” لميلان كونديرا إلى العربية ، لكنك لم تستمر؟ ما الذي تعنيه الترجمة لك؟
- كنت أتمنى أن أترجم الكثير من الكتب التي قرأتها وأحببتها في مجالات عديدة· أنا مهتم بها منذ سنوات مثل الفلسفة والنقد الأدبي وعلم النفس التحليلي وعلم الفضاء ونظرية الكم وتطبيقاتها الحديثة والرواية وغيرها، لكن ترجمتي لكتاب ميلان كونديرا، التي استهلكت مني وقتا طويلا استمر لأكثر من سنة ونصف، وما تطلّبه من جهود لإتقان عدة حقول من بينها قراءة النوتة الموسيقية والعمل مع الموسيقي العراقي أحمد مختار لإيجاد الصياغات المناسبة للمفاهيم الموسيقية بالعربية وإعداد قاموس ملحق بالمصطلحات التي شملها الكتاب، فوجئت بأن كل هذا الجهد قوبل بمنحي عشرين نسخة من الكتاب قمت بتوزيعها على الأصدقاء، فلم أتسلم من الناشر أي إشعار عن الكتاب، هل حقق نجاحا ما؟ هل استفاد الناشر ماديا من طبعه؟ هل أعيد طبعه ثانية؟ لا شيء. ويبدو أن هذه هي حال المترجم العربي بشكل عام. أن تعيش في بلد مثل بريطانيا عليك أن تستخدم كل ساعات عملك كي تتمكّن من تدبير أمور عيشك من دون الوقوع في مطب الديون المصرفية، أو تكون عالة على الدولة المضيفة.
في حالة توفّر عروض جادة للترجمة من دور نشر محترمة سأعاود مساهمتي، فأنا أعرف كم ساهمت الترجمة في تكويني وتكوين أبناء جيلي خلال سني المراهقة والشباب المبكر، ومترجمون مثل مصطفى سويف وجورج طرابيشي تركوا بصماتهم على تشكل أجيال، أو على الأقل على نخبة منها.
الآن أكتفي بترجمة ما أحب من قصائد لشعراء لم يعرفهم القارئ العربي ونصوصا أدبية قصيرة لكتّاب مثل بورخيس وهمنغواي وأضعها على موقعي:
luayabdulilah.com
هل الترجمة خيانة فعلاً.. ماذا تقول؟
- أظن أن الخيانة شرط أساسي لنقل نص أدبي من لغة إلى أخرى، فأنت تجد في غالب الأحيان ضرورة العثور على معادل في اللغة الجديدة، التي هي محمّلة بدلالاتها الثقافية والسيكولوجية والمجازية، إضافة إلى إيجاد الإيقاع المعادل لها في اللغة الجديدة.
المترجم الغربي يعاني أقل بكثير من المترجم العربي، فخلفية لغته الممتدة إلى اللاتينية تعطيه أرضية مشتركة للمصطلحات مع بعض التحوير، بينما نحن نواجه سعيا للعثور على مصطلحات جديدة بالعربية أو أن نأخذ المصطلح اللاتيني ونكيّفه إلى العربية مثلما فعل أسلافنا المترجمون في العصر العباسي حينما حوّروا تعابير مثل الفلسفة والموسيقى لتكون مقبولة من الأذن العربية بينما عثروا على مفردة لا صلة لها بالأصل مثل ‘’لوجيكا’’ التي ترجموها: ‘’المنطق››·
الترجمة الأدبية هي إبداع حقيقي في بحر اللغة: أن يتمكّن المترجم من إثارة نفس التأثير الذي تركه النص الأصلي في نفوس قراء اللغة الأصلية لهو إنجاز هائل.
بعد أكثر من أربعة عقود ونصف من المنفى او الغربة، هل أصبح أمرا واقعا، لم تعد فيه اللغة هي العائق بل طبيعة التفكير .. ماذا تقول عن ذلك؟
- المنفى ليس اختيارا على عكس الغربة. ففي الحالة الأولى أنت لا تملك القدرة على الذهاب متى أردت إلى بلدك وتغذية ذاكرتك؛ أنت هنا بعيد تماماً عن الدغل الذي قُطعت منه، مثل الناي الذي يراه جلال الدين الرومي كائنا يبكي دائما لعدم قدرته على العودة إلى أصله. أنا حين عدت إلى بغداد عام 2003 بعد غياب عنها امتد خمساً وعشرين سنة، وجدتني أعيش أعمق غربة عرفتها في حياتي: الطرق التي توصلني إلى أماكن سكني القديمة تغيرت كلها، واخترقت الطرق السريعة كل تلك الزوايا الخفية من بغداد القديمة التي كانت تمنحها شيئا من الغموض ونكهة من الماضي العريق. كل من أعرفهم عاشوا كوارث هائلة تركت آثارها على أرواحهم وخلجاتهم، وهم الآن إذ تجاوزوا سن الشباب تماما ما زالوا في ذاكرتي كما تركتهم وكما أريدهم أن يكونوا. لعل مسرحية توفيق الحكيم «أهل الكهف» المستقاة من القرآن الكريم تعبّر عن حال المنفيين بشكل ما، عدا عن تلك القطيعة مع أجيال ولدت ونشأت خلال غيابي عن البلد.
كم يجب أن نكون قادرين على استيعاب هذه الهوة القائمة بيننا اليوم؟
أنا لم أترك العراق طمعاً بحياة أفضل، إذ كنت قبل إيفادي إلى الجزائر عام 1976 متجذرا في بلدي. أبني جسورا كل يوم مع طلابي في ثانوية العطيفية التي كنت أدرّس فيها، ولديّ أصدقاء رائعون يشاركونني اهتماماتي وآمالي للبلد، وعائلة كبيرة تقدم لي كل السند، وجيران رائعون.
هل أصبحت الكتابة بالنسبة لي بالعربية نوعاً من التشبث بالذاكرة وبديلاً عن وطن يغوص عميقاً في شرايين روحي؟
حتى الغزو الأمريكي- البريطاني للعراق عام 2003، لم تكن الكتابة بالنسبة لي سوى تسطير أوراق بالكلمات ورميها من النافذة، فلا أحد في عالم اللغة العربية كان منتبهاً لوجود ظاهرة اسمها كتّاب المنفى العراقيون، والعراق كان بعيداً جداً عنا حتى التواصل مع الأصدقاء أو ممن بقي حياً من أهلنا شبه مستحيل.
كانت مدة المنفى بالنسبة للعراقيين هي الأطول بين كل أولئك الذين عاشوا المنافي مثل التشيليين بعد انقلاب بينوشيت الدموي، أو الألمان خلال الحرب العالمية الثانية أو الأرجنتينيين بعد استيلاء الطغمة العسكرية على السلطة خلال السبعينيات من القرن الماضي.
كان المنفى بالنسبة لنا أشبه بساكني «جحيم» دانتي الذي نُقش على بوابة دخوله: «أيها الداخلون اطرحوا عنكم كل أمل».
ولعل انتهاءه جاء متأخراً، مثلما هو الحال مع أهل الكهف!
*********************************
قالو عن لؤي عبد الاله
اشتغلت مجموعة القاص والروائي العراقي لؤي عبد الإله، وعنوانها «لعبة الأقنعة» على الفجوات البينيّة لتلك الزوايا المنفرجة بين القصّ والنفس؛ فالمجموعة وكما يتبين من عنوانها تُقارب مفهوم تعدّد أقنعة الشخصيّة وفقَ مفاهيم التحليل النفسي ضمن فضاء ما يمكن أن نطلق عليه «لعبة المرايا» بحيث يتبدّى اللاوعي ويكشف عن بنائه المضمر بمرآة البناء والشكل القصصيّين…
علية خليل ابراهيم
تفتح لنا هذه النصوص في لعبة الاقنعة، فسحة للتأمل والمغامرة في طرح التساؤلات التي تُقلق الوجود الانساني من خلال ارتياد المناطق المزوية من الهم الانساني المتواري خلف اقنعة الرتابة والطقوس الانسانية المعتادة، عبر تزاوج مثمر بين الفلسفة والسرد القصصي يتحمل اكثر من مستوى للتأويل وحتى الفهم.
مصطفى الموسوي