أدار الحوار: ستيف بولسون
ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي
القسم الثاني
يمكن للمرء أن يتساءل عن طبيعة الاسئلة الجوهرية الكبرى في الحياة وهو يقرأ الكتاب الجديد المنشور في 12 كانون ثاني 2021 بعنوان (الأساسيات: عشرة مفاتيح للواقع)
لبروفسور الفيزياء (فرانك ويلتشيك) الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء. عقب قراءتي الأولية الاستكشافية لهذا الكتاب تعمّقت قناعتي بأنّ الفيزيائيين هم بعض أفضل فلاسفة عصرنا (لكنهم ليسوا الوحيدين)،
وأنّ فهماً علمياً وفلسفياً أفضل لعالمنا لن يكون متاحاً مالم نحصل على معرفة أولية بأفكار أهمّ فيزيائيي عصرنا وبخاصة أنّ هؤلاء قادرون على تخليق تشبيكات معرفية متداخلة بين الحقول المعرفية، وهو مابات يُعرفُ بنظرية التعقيد Theory of Complexity التي باتت تشغل موقعاً ريادياً متقدّماً في جبهات العلم المتقدمة في عالم اليوم.
يمثل البروفسور (ويلتشيك) - كما أرى - واحداً من أرقى العقول الفيزيائية التي تعاملت مع نظرية الأنساق المعقّدة، وهو عقل فلسفي غاية في الثراء والفرادة.
أقدّمُ في المادة التالية ترجمة لحوار جميل مع البروفسور (ويلتشيك) أداره (ستيف بولسون Steve Poulson) الذي يعمل منتجاً تنفيذياً في راديو ويسكونسن العام، كما أنه مؤلف لكتب منشورة نالت مقروئية طيبة، منها كتاب (الذرات وعَدَن: مناقشات عن الدين والعلم)
Atoms and Eden: Conversations on Religion and Science
الحوار منشور على موقع (ناوتيلوس Nautilus) الالكتروني الرصين بتأريخ 14 يناير (كانون ثاني) 2016. أدناه الرابط الالكتروني لمن يرغب في مراجعة النص الاصلي للحوار فضلاً عن قراءة مواد إضافية في الموقع:
http://nautil.us/issue/32/space/beauty-is-physics-secret-weapon
المترجمة
لِنفترِضْ أن الكون لم يحتوِ أياً من الأفكار الجميلة أو البنى الرياضياتية الأنيقة. هل يمكننا والحالة هذه تخيّل الشكل الذي ستكون عليه قوانين الطبيعة فيما لو كانت ملأى باللاتناظرات؟
- لطالما تصارعتُ فكرياً مع هذا السؤال، وثمة تجربة فكرية Thought – Experiment أجدها ملهمة للغاية في هذا الشأن: مع التحسّن المضطرد في عمل الحواسيب، ومع تحسّن قدرات الذكاء الاصطناعي، يمكن للمرء إجراء تجارب فكرية محسوسة مشابهة للنمط الذي خبرناه في فلم (الماتريكس) حيث يمكن للذكاء أن يتجسّد بواسطة عمل حاسوب متطوّر، ومايظنه الحاسوب عالماً خاصاً به هو في الحقيقة شيء تمّت برمجته مسبقاً لتقبّله عالماً له.
إذن نحنُ نعيشُ فعلاً في محاكاة حاسوبية؟
- دعنا نتخيّل أنفسنا في عالم سوبر ماريو Super Mario (لعبة حاسوبية اشتهرت على مستوى عالمي قبل سنوات عديدة، المترجمة). قوانين الفيزياء في هذا العالم لاتبدو جميلة بأي شكل من الأشكال لأنها تتغيّر بتغيّر الزمان والمكان ؛ ومع أن القوانين الحاكمة لسوبر ماريو تسلك بصورة غريبة لنا لكنها تبدو متسقة منطقياً بالنسبة لشروط اللعبة وفي الوقت ذاته هي مختلفة كل الاختلاف عن الكيفية التي يعمل بها عالمنا حي قوانين الفيزياء لاتتغيّر بتغيّر الزمان أو المكان، كما أنها تمتاز بخاصية إمكانية الاعادة Reproducibility – أي بمعنى متى مافهمت كيفية عمل الاجزاء الصغيرة يمكنك بالاستنتاج فهم كيفية عمل الاجزاء الكبيرة ؛ في حين في عالمٍ مبرمج بصورة مسبقة (مثل عالم لعبة سوبر ماريو، المترجمة) فإنّ الأمر كله يعتمد على المقاصد المسبقة لمبرمج اللعبة. إنّ قوانين العوالم مسبقة التصميم لايتوجّبُ عليها أن تكون ذات معنى أو أن تكون جميلة ؛ لذا لستُ أرى وجود ضرورة منطقية لهذه القوانين. بالطبع ربما كانت قوانين الفيزياء أكثر استعصاءً على الاكتشاف لو أنها ماكانت جميلة بالمعنى الذي بيّنته فيما سبق ؛ لذا فإنّ إمكانية فهم هذه القوانين هي بالنسبة لي مسألة أكثر غموضاً من جمالها. ليس على القوانين الفيزيائية أن تكون جميلة ؛ لكنها جميلة في حقيقة الأمر.
هل كانت موضوعة الجمال ذات أهمية بالنسبة لآينشتاين وسواه من مؤسّسي صروح الفيزياء الحديثة؟
- بالتأكيد على الرغم من أنهم لم يفكّروا بشأن موضوعة الجمال بصورة صريحة دوماً. كان لآينشتاين وجيمس كلارك ماكسويل (واضع أسس النظرية الكهرومغناطيسية الحديثة، المترجمة) نزولاً حتى نيوتن تلك الغريزة بتجزئة أية مشكلة إلى مجموعة من مشاكل ثانوية صغيرة، وهم إذ فعلوا هذا تملكتهم قناعة بأن المشاكل الصغيرة قابلة للفهم، ثم يمكن فهم المشكلة الكبرى الأصلية. كان آينشتاين شخصية محورية في دفع ذلك الجانب من جوانب الجمال في الطبيعة (أعني به خاصية التناظر) إلى آفاق جديدة. إنّ نظرية النسبية تنتمي كثيراً إلى عالم التغيّر من غير تغيّر الذي حكيتُ عنه سابقاً: يمكنك بموجب نظرية النسبية أن تنظر للعالم من منصّة متحرّكة، وسترى أنّ كل الاشياء المختلفة التي تندفع نحوك أو بعيداً عنك ستبدو مختلفة لك ؛ لكن قوانين الفيزياء ذاتها التي تنطبق على المنصات الثابتة ستنطبق على المنصّات المتحرّكة. هذا هو جوهر نظرية النسبية.
هل ترى أنّ البشر يزيحون النقاب حقاً عن البنية العميقة للكون؟ أم أنّ مايفعله البشر هو الكشف عن نسختنا البشرية بشأن ماندعوه (الواقع) واضعين في الاعتبار الكيفية التي تعمل بها أدمغتنا فضلاً عن الكيفية التي نرى بها العالم؟
- الفيزياء تعمل بصورة حسنة. ليس في مقدورنا تصميم أجهزة (الآيفون) أو مصادم الهادرون الكبير LHC أو ترتيب رحلات فضائية إلى كوكب بلوتو من غير وصف دقيق للعالم يتناول كل التفاصيل الدقيقة. هذا الامر ليس فنتازيا ؛ لكن برغم ذلك يمكن أن توجد طرق مختلفة في تنظيم أفكار كل فرد فينا.
لديك تجربة فكرية مثيرة بشأن الكلاب أو الطيور. لو كان لهذه الحيوانات مقدرة على التفكير التجريدي، هل كانت ستُبدي مقدرة جيدة في الفيزياء؟
- أعتقد أنّ الطيور ستكون جيدة للغاية في الفيزياء على خلاف الكلاب التي لن تكون بمستوى الطيور. يقوم عالم الكلاب بصورة جوهرية على حاسة الشم، وبالطبع يمكن للاحساسات الكيميائية أن تدعم حياة غنية بالتواصل وبتذوق الطعام. يمكن للكلاب أن تشمّ رائحة قطعة من كيكة المادلين أان تتذكر الماضي ؛ لكنها حتى لو كانت ذكية للغاية ومستمتعة بحياة اجتماعية ثرية فسيكون امراً صعباً أن تساعدها إحساسات الشم على فهم قوانين نيوتن في الحركة والميكانيك بعامة. الكائنات البشرية حيوانات بصرية في الاساس ؛ لذا فهي تحوز طائفة واسعة من الطرق القوية القادرة على فهم الكيفية التي تتحرك بها الاشياء المختلفة في الفضاء.
إذن ماهو الشيء المميز في الطيور؟
- تمتلك الطيور طائفة واسعة من القدرات المماثلة للقدرات البشرية بل وحتى أكثر منها. إن تجربتنا البشرية محكومة باحتكاكنا مع أشياء كثيرة إللى جانب قوة الجاذبية الارضية ؛ أما الطيور فهي تنشر أجنحتها وتصفقها لبرهة ثم تتوقف بعد فترة وتمضي لتتزحلق في الفضاء كطائرة شراعية. هذا الأمر يؤكد أن الطيور تعرف الكثير بشأن خاصية القصور الذاتي Inertia. لدى الطيور أيضاً إحساسٌ حدسيّ بالنسبية – أي بأنّ قوانين الفيزياء لاتتغير بتغيّر الأحداثيات المرجعية للحركة متى ماكان الجسم يتحرك ضمن هذه الاحداثيات بسرعة ثابتة، وهي (الطيور) تختبر هذا كل يوم ؛ لذا لو أنّ الطيور غدت ذكية فأظنّ حينها أنها ستحرزُ تقدّماً سريعاً في الفيزياء يفوق بأشواط ماحققه البشر.
أحد المخاطر المحدقة بالفيزيائي النظري هو إمكانية أن يقع مأسوراً في الفخ الناجم عن جمال معادلاته، ومن ثم اندفاعه المستميت في محاولة جعل كل شيء ينحشر حشراً في مخططه النظري بحيث يصبح بعيداً عن العالم المادي الذي يعيشه. أنت كفيزيائي نظري تحتاج إلى اختبارات تجريبية للبرهنة على صحة الحقيقة المخبوءة في ثنايا البنية الرياضياتية للمعادلات الفيزيائية. هل يشكّل هذا الامر معضلة مهنية لك؟
- نعم بالتأكيد. أحبّ الفيزيائي العظيم ريتشارد فاينمان تكرار القول بأنّ الفيزيائي لديه الخيال ؛ لكنه خيال محشور في سترة المجانين Straitjacket (إشارة إلى ضيق الحيّز المتاح، المترجمة). بالنسبة لي يعني هذا مستوى مختلفاً من الولع عندما يكون بمقدور أفكار المرء أن تقترح نتائج تجريبية مسبقة يمكن اختبارها بالتجربة لاحقاً.
ماذا لو لم يكن ثمة « نظرية كل شيء « التي بمستطاعها توحيد كل قوانين الفيزياء؟ ماالذي سيتركه هذه الامر على رؤيتك للطبيعة بكونها عملاً جميلاً ينقاد لقوانين جميلة؟
- ستبقى مقاربتي حينذاك جميلة أيضاً. نعرف اليوم وجود قوانين فيزيائية جميلة بمقدورها توضيح معظم الطريقة التي تعمل بها المادة في الطبيعة. الأمر في نهاية المطاف ليس سوى أننا لم نكتشف بعدُ كلّ تفاصيل هذه الطريقة ؛ إذ من الصعوبة البالغة أن نكشف كم أنّ قوانين الطبيعة متناظرة، وكم هي ذات فائدة لاحدود لها، وكم هي مبدعة في دراسة الطبيعة والكشف عن خفاياها. هذه القوانين هِبةٌ عظمى لنا ؛ لكننا - البشر - نظلّ غير قادرين على اجتناء السعادة الكبرى المنتظرة من هذه القوانين لأنها - كما نظن – تنطوي على مثالب صغيرة شبيهة بالمثالب الواردة في قصة (علامة الميلاد The Birth – Mark ) حيث ذلك الشعور الممض بعدم الاكتمال الذي يسكن روح فتاة بشأن خطيبها المُنتظر – ذلك الشعور الذي يقضُّ مضجعها ؛ لذا يسعى البشر بأقصى مايستطيعون إلى ايجاد ظواهر جديدة يمكنها حيازة المزيد من التناظر، وبالتالي يمكنها جعل المعادلات الفيزيائية أكثر جمالاً ؛ لكن يبقى المعيار النهائي الحاسم في قبول النتائج الجديدة هو المعيار التجريبي.