حيدر المحسن
سافر حسين عبد اللطيف في شبابه الأول إلى باريس، ولم يتقبل فكرة العيش في المنفى، وعاد إلى بلده مطمئنا إلى أن الوطن يمكنه منح الشعر رغم كل شيء اغتناءه وتفتحه. صدرت له عام 1977 أول مجموعة شعرية هي «على الطرقات أرقب المارّة»،
والفعل المستعمل في العنوان يدلّ على أن ما يشغل الشاعر هو الهمّ السياسيّ بالدرجة الأساس، وليس الرومانسي أو الوجودي، من الذي كان يملأ أذهان شعراء ذلك الزمان. ورغم كتابته هذا النمط من الشعر لكنه لم يدع نفسه تنقاد نحو النزعة «الثورية» التي وسمت قصائد الشعراء المؤدلجين ممن كانوا يعملون مع السلطة الحاكمة، أو ضدّها:
فلتبقَ وحيدْ /في الصمت القاحل والظلماء تترصّد لو نجمهْ/ لو جاء صديقْ / لو مرّ بدربي عابر / ما أقسى أن يكون الإنسانُ وحيدْ / ما أقسى أن يبقى الإنسانُ بعيدْ / ما أق...
المقطع مجتزأ من أول قصيدة في المجموعة، والقافية الساكنة منحت المعنى المحتدم قوة إضافية. هنالك أناقة في تصفيف الأبيات، لكنها لا تغطي على الخوف لدى الشاعر والذي يقارب الهلع على مصيره ومصير الناس، وهؤلاء هم معيار القصيدة ومرتكزها، فعندما يتحدّث الشاعر عن نفسه نراه يختفي خلف الكواليس، ويتقدّم الجمهور إلى الواجهة، وهذه من سمات شعر حسين عبد اللطيف، الظهور والاختباء، كما أن النبرة المستعملة تتفاوت بين الصعود والخفوت، بين الشكوى الهادئة و”النحيب الدامس”، مراوغة ذكيّة كي لا تطال الشاعر الرقابة الحديديّة السائدة آنذاك على المطبوعات، والتي كانت تفتك بالأدباء لأقلّ سبب:
“يا عذابي الذي يستطيل | يا عذابي الذي يستحيل | قد يجيء الندم | لزيارتنا، عادة، في الأخير | من هنا وهناك | نفتح الباب والنافذات | فيحلّ الغياب الطويل |......... “:
ونلاحظ هنا استعمالا مبكرا للفراغ في نهاية المقطع في الشعر العراقي، فهو يؤدي دور بيت شعر غائب أو غير مرئيّ وظيفته مزدوجة؛ تخفيف النبرة أمام الرقيب المتجبّر، وتكثيفها وتضخيمها بالنسبة إلى القارئ الذي عبرت له شفرة القصيدة. من أجل العثور على ماهية الشعر الحقيقية يتوسّل الشاعر أحيانا بالفراغ، وبالنقطة والفاصلة وغيرها من أجل أن يثبت كل شيء في اللغة جدارته الفنية.
مصدر آخر لجأ إليه الشاعر لزيادة الالتباس على الرقيب، وذلك باستعمال النبات أو الحيوان شاهدا ينقل بواسطته الروع والألم اللذين يكابدهما، دون الإشارة ولو من بعيد إلى شخصه، وتبدو القصيدة في الأخير مشهدا طبيعيا ليس من همّ للشاعر سوى رسمه، بينما يختفي كل ما يمكن أن يؤدي به إلى التهلكة:
جروٌ أعمى / يدنو... خلسة / من صحن الماء / فيريق الماء / يعوي... إذ يشتمّ الأحشاء / ويدورُ / ليبحث عن ذيلِهْ
لا يوجد هنا ما يسمى بالحزن الشعري، كما أن الشاعر لا يرى نفسه طفلا من أطفال الطبيعة. الحسّ الجماليّ لم يمنع الشاعر من وصف نفسه بالجرو كي يظهر أمام القارئ عاري القلب والحياة القاسية تترك آثارها عليه يوما بعد يوم. يستطيع الفن في عهدة الشعر أن يجعل كل شيء جميلا، حتى الجرو الأعمى الفاقد ذيله، ولتحقيق ذلك يجب أن يكون هنالك إحساس مرهف بالكلمة يضاهي رهافة إحساس الموسيقار بالنغمة، مع دقة بالغة، وحذر شديد من زلّة القلم. عندما يكتمل الإعجاز الفني فإنه يمنح مبدعه إحساسا فريدا بالحرية، ينبثق داخله في لحظة إتمامه للقصيدة. إنه نوع من تخفيف وطأة الواقع الذي يصير شفافا بواسطة الشعر، كما أن عملية البوح تساعد في الانعتاق، فهي عملية معاكسة تماما لتجميد العالم في حالة من الكينونة الثابة. يقول تولستوي: «هنالك حدّان؛ واحد للألم وآخر للحرية، وهذان الحدّان يلتقيان دائما”. الألم في قصائد شاعرنا قد بلغ مداه، وكذلك التوق إلى الحرّية.