طالب عبد العزيز
استيقظتُ وفي فمي جملةٌ (يا لها من حياة لا تَستوفي تكلفَتها إلا بالموت) ربما اختمرت الجملة هذه في حلم البرحة، او هي مما تتركه الوقائع في العقل الباطن، لكنْ، وكما في كل الصباحات، فانا أبدأ فيها يومي برحلة قصيرة بين دارة الخطار والبيت الكبير والبقچة الصغيرة. لم أشرع بالرحلة القسرية هذه اليوم، ثم أنني نسيت فيروز، فلم اسمعها، ولكي تنتظم الساعاتُ الاولى كما هي، فقد وجدتني باحثاً في أرفف المطبخ عن علبة القهوة، لكنني لم أجدها. لذا، اخذت مجلسي أمام الشاشة هذه، مقلباً أخبار العالم، التي تندرُ المباهجُ فيها.
ربما يشترك الملايين في العالم معي بهذه، وإنْ إختلفنا، فبالتفاصيل والحاجات، وإن تباينت فبحسب الموقع والتركيبة الاجتماعية، لكن، وبحسب الجميع، فلا وجود لحياة حقيقية للانسان في الكون كله. وكل ما نفعله فيها هو مشاغلة للموت، وإيهام بجدوى الوجود عليها، فنحن مشتركون في المصائر والمآلات ذاتها. كنتُ أعتقد بأنَّ البصرة، أو العراق، أو شرقنا العربي، هي البلاد الوحيدة التي يعاني الانسان فيها من جور الحكّام، وتخلف مجتمعاته، وانحراف الطبيعة فيها، إلا أنني اكتشفت بأنَّ تجريفُ البساتين وردم الانهار على سبيل المثال، موضوع نشترك فيه جميعاً، وأننا لا نملك الحلول لها، لا اليوم ولا بعد عشر سنوات، فالتحولاتُ في السياسة، وتفسير الدين، وخضوع الحاكم، او استثماره لرأي الاغلبية الجاهلة قضايا مستعصية، لا يلوح في الافق شبحُ الخلاص منها.
في مكان ما من العالم (المتمدن) ربما - هل من تمدن هنا؟ - قد يجد المرء مأمنه في ما هو شخصيٍّ، بانكفائه على نفسه، وببعده عن ما هو عام، فلا تتأثر حياته بتقلبات السياسة، ولا تجور عليه الكنيسة ورجالاتها، لكننا، في القطعة الموحشة المظلمة من الارض، وقد عمد الحاكم إلى ربط حياتنا بآلة حكمه(الدين) وجعل من كل أفعاله مبررة، باستناده الى النصِّ والمقدس، ومثله يفعل شيخ القبيلة، وزعيم المليشيا، والحزب الديني، الذين اوثقوا بيانهم الى مأثورهم الديني، ثم عقدوها بحبل تقاليدهم الاجتماعية، وبذلك تكون الحلقات القاتلة قد احكمت حبلها على رقابنا، حتى صرنا لا ننتظر إلا ما تجود به حرابهم.
لا تشكّل السعاداتُ المجتزأة، التي نستخلصها مما نتوهمه في الفروج والكوى البعيدات شيئاً، فلا تمكث ساعات اللقاء بالحبيبة طويلاً، وهي عارضٌ ما ترادفت، في الايام والليالي، ولا تدوم خربشات النبيذ في الوجه إلا لحظات، فهي مما تأبِّد ذهابُه في الكأس الاخيرة، ولا المتع القصيرة بقراءة كتاب، او مشاهدة فيلم قادرة على أن تمنح وجودنا معنى ما. هناك غدٌ جاثم أبداً على الروح. وهناك سوطٌ مرتفعٌ في عمود الدخان، لا سبيل لتفاديه، وهناك الكثير مما نجهله نحن، ويعلمه غيرنا.
نذهبُ الى الشعر معتقدينه خلاصاً، فنكتب: الطاولةُ في الركن القصيِّ، ذاك/ هي ما اردتُ الحديثَ عنه/ ليس عنها بالضبط/ إنما، عن المرأة والرجل اللذين يجلسان، هناك/ هو بهيئته المشذبة بالوقار، وهي بانصاتها الطويل/ هو يتحدث عن الاشجار، التي لم تهلك في العاصفة البارحة / وهي تتأمل غربتهما التي تملأ الفضاء / هو يبحث في الايّام عن يأسٍ لا أحد له / وهي تتأملُ الحقائبَ، تجرجرها الرِّيح التى لا تني تهبُّ.