ستار كاووش
خلال إفتتاح أحد معارضي، كنت أود تصوير بعض لوحاتي رغم زحمة الحاضرين، لكني حين هممتُ بالتصوير توقفتْ امرأة بيني وبين اللوحات دون قصد منها، إنتظرتُ لحظات وسط الزحام لكن المرأة ظلت واقفة تتكلم مع هذا وتشير لذاك.
ما أثارني وقتها هو أن تلك المرأة كانت تضع على رأسها زهوراً لا حصر لها، زهور ملونة تستقر على شعرها بطريقة لافتة وهي تتوسط قاعة العرض، فما كان مني إلا أن أُصَوِّرُ المرأة ذاتها بدلاً من لوحاتي التي ظهرت كخلفية للمشهد، وبعدها بقليل إقتربتُ منها وقدمت لها نفسي مع كأسَي نبيذ، لأعرف بأنها الرسامة مارتا يولنغ، التي -عرفتُ فيما بعد- بأنها تعودَتْ أن تضع الزهور على رأسها بدلاً من القبعة، وكأنها تحمل باقة من الورد حيث يتطاير العطر ويملأ المكان الذي تتواجد فيه. وبما أني متعلق كثيراً بالزهور وأشكالها وألوانها والتكوينات التي تنتج عن انسجامها مع بعضها، لذا رسمت لوحة استلهمتها من تلك الرسامة التي تلف شعرها بزهور غريبة وكأنها خرجت تواً من واحدة من حفلات أمستردام البوهيمية، ثم تبعتُ ذلك بلوحات عديدة تظهر فيها النساء وهن يغطين شعورهن بباقات ورد ملونة تثير المحبة والفرح والعطر الممزوج بالحضور والغياب في ذات الوقت. كنت قد رسمت قبل هذا الموقف بعض اللوحات التي تدخل فيها الزهور كمفردة عابرة، لكني بعد لقاء ذلك المعرض ذهبتُ مع الزهور بعيداً وصارت هي البطل في الكثير من قماشات الرسم.
المناخ والمحيط يساعدان غالباً على منح الرسام مواضيع للرسم، وهذا واضح جداً في بلد مثل هولندا، فلا يمكنك أن تمر هنا قرب أية زاوية أو منعطف، دون أن ترى الزهور المختلفة، أما لو تجولتَ وسط الحقول والمزارع والغابات فتداهمك زهور لم تر لها مثيلاً سابقاً. تاريخ هولندا مع الزهور قديم قدم الأراضي المنخفضة ذاتها، وحين تبوأت هولندا مرتبة رفيعة في الرسم منذ أربعة قرون، إحتلت الزهور مكانة خاصة في لوحات هذه الفترة، وكانت ترمز الى تفاصيل وأشياء كثيرة، كما في لوحة يان ستين التي تظهر فيها الزهور في النافذة كإشارة الى الزوجة المتوفية للرجل الظاهر في اللوحة، حسب تقاليد القرن السابع عشر. كذلك لوحة ريمبرانت الشهيرة التي وضع فيها الزهور على رأس زوجته ساسكيا كرمزٍ للخصوبة والحب، كذلك آلاف اللوحات الأخرى التي أدخَلَ فيها الفنانون الزهور كموضوع أساسي، ليمتد تأثير الزهور مئات السنين عبر تاريخ هولندا، ولم يتوقف هذا الحب والشغف حتى بعد أن صار هناك متحف للزهور في مدينة آلسمِير قرب أمستردام.
تغطي الحقول الملونة مساحات واسعة في كل أرجاء هولندا، وأجمل هذه الحقول هي التي تقع بين أمستردام ولاهاي. وهناك أنواع لا حصر لها، لكن أكثرها شعبية هي التُلب، وتقع المزارع غالباً بين الوديان أو الهضاب القريبة من البحر، لأن التربة في هذه المناطق تكون خصبة جداً ومناسبة لهذه الأنواع التي تتدفق بالملايين وأصبحت علامة هولندا المميزة، ووجهها الملون بين البلدان وصارت منذ أربعمائة سنة بطاقة تعريف هولندية بإمتياز. لذا يأتي ملايين الناس من بلدان مختلفة في الربيع، كي يشاهدوا ويصوروا هذا الجمال ويتجولون بين ملامح هذه الجنة الملونة، ويرون كيف يمكن لهذا البلد أن يتحول الى باليت ملون لرسام انطباعي، وخاصة منطقة (كوكن هوف) التي تعتبر أجمل بارك ربيعي في العالم.
المعنى الحقيقي للحياة هو أن تعيشها وتمضي معها بتناغم وحرية ومسرَّة، دون أقنعة، بلا أغلال تاريخية وعقائدية وأيديولجية، وغير مكبد بعقد إجتماعية. وتعرفُ أن اليوم الذي تعيشه الآن هو أثمن يوم في حياتك. لذا يمكنني القول أن هولندا هي بلد الجمال والورد، وبعد أن عشتُ سنوات طويلة جداً في هذا البلد، خَبِرتُ سر الجمال الذي يخرج مثل الينابيع وينبثق مثل العيون في هذه الأراضي المنخفضة جغرافياً، والعالية جمالياً. ويكفي أن هذا البلد ليس لديه عيداً للجيش، بينما لديه عيداً وطنياً للزهور.