حيدر المحسن
قبل خمسة آلاف عام تقريبا تمّ اختراع اللّغة من قبل المحاسبين لأغراض تجارية تخصّ البيع والشّراء والمقايضة وغير ذلك، أي أن الشعراء لم يكونوا يعرفون شيئا عن اللغة التي سوف ينقلون عبرها خيال المجتمع وفكره بصورة قصائد وقصص. دعونا نقرأ هذه القصيدة، ثم نقرّر إذا كان مؤلفها ينتمي إلى طائفة المحاسبين أم الأدباء:
«أيها القارب المنساب بي من الصمت إلى غاية الصمت ها قد وصلت».
يرغمنا حسين عبد اللطيف بلغته المتقشفة على نسيان ما نعرفه من شعر، ويقدّم لنا شعرا جديدا مختلفا، ويتطلّب منهجَ تلقٍّ مختلفًا. لا يمكن لأيّ حدث، أو فعل أن يستقلّ بذاته؛ أتخيّل الشّاعر يلقي علينا، وبنوع من التّحدّي قصائدَ من دون كلمات، إيماءات قليلة تتحوّل لديه إلى لغة، وهذا الأمر ليس صعبا أو مستحيلا إذا تذكرنا أن شغل الشاعر الرئيسي هو خلق نوع من الجاذبية في السكون، وفي صوت الشعر الخافت، وفي الأخير اختار طريقة بالنظم هي جسر يصل بين الصمت والكلام:
«في غابة الرموز واللغط لا أفهم اللغات لا أفهم اللغط وفجأة يقوم من على يميني ترجمان ومن يساري ترجمان»
يحتاج القارئ إلى هذا الترجمان من أجل حلّ ألغاز القصيدة، لكنه ترجمان ذاتيّ يمكنه بسهولة تحويل موسيقى الشّعر إلى معان واضحة، كما أن للفراغ وتصفيف الأبيات دورا في إلقاء الضّوء على المعنى. رغم الغنائية المغموسة بالغموض تبقى الواقعية هي دين حسين عبد اللطيف، لكنها صارت بالنتيجة واقعية جديدة ابتعدت كثيرا باتجاه مستقبل الشعر. الميزة الأخرى لدى حسين عبد اللطيف هي تحرير القصيدة من الطريقة التقليدية في تسطير الأبيات، مستثمرا الفضاء النصّي، ومستفيدا من أساليب الطباعة، استطاع أن يحصل على قصيدة مختلفة في الشكل، لكنه أبقى البيت الشعري محافظا على هيئته، أي أنه لم يحاول التجريب أكثر والاقتراب من رسم القصيدة بهيئة مستطيلات ومربعات (Calligramme) مثلما فعل غيره، والنتيجة الحاصلة أن شعره ظلّ بعيدا عن الفوضى، بل إنه صار أكثر نقاوة. كما أن الفراغات الحاصلة مع الظّلال التي تصنعها المفردات أعطت قصيدته شكل سِقّالة من الكلمات على القارئ تسلّقها من أجل الوصول إلى المعنى الأعلى، والأرفع:
هي الرّيحُ
تمضي
تجوب القفارْ
وتبقى
تجوبُ
تجوبُ
كئيبة
فتحتُ إليها بقلبي مزارْ
كدنيا رحيبة
هنالك مساحة من الصمت تتخلّل البناء المعماري للقصيدة وظيفتها خلق مساحة مشابهة من الصمت في ذهن القارئ يتفاعل فيها الحسّ الجمالي وتنتظم الأفكار، ولها فائدة أخرى هي مضاعفة موسيقى الشّعر بواسطة الصّدى المنتشر في تلك الفسحة. للبيت الشّعري، سواء كان مفردة واحدة أو اثنتين أو أكثر، صوت وصدى يجبران القارئ على قراءته بمستوى صوتي رتيب يشبه الإنشاد في النصوص الدينية القديمة، كما أن شكل القصيدة الجديد منحها، بالإضافة إلى الصّفاء، دلالات عديدة لأن الصّمت المتكرّر والنّبرة الخافتة يجعلان المفردات تشبه النّوتة الموسيقية، أي أن الشّعر صارت له لغة جديدة تتطلّب معرفتها عدّة جديدة، وهذا هو المقصود بالنّهج الجديد في التلقي.
يمكن فهم أصالة حسين عبد اللطيف أكثر بقراءة كتابه الثاني «نار القطرب»، والذي ابتكر فيه شكل السقّالة للقصيدة، وربما كان لسفره إلى باريس وهو شابّ واطّلاعه على تجارب الرسّامين أثر في دفعه إلى تحطيم شكل القصيدة التقليدي. بالإضافة إلى ثقافته الواسعة واطّلاعه على الأدب القديم والحديث، كان الشاعر مهتمّا بالفن عموما، ففي مجموعته «أمير من أور» التي كتبها عن رحيل صديقه أحمد الأمير نتعرّف على أسماء رسّامين ونحّاتين عديدين لم يكن حضورهم اعتباطيا.
في كلّ مرة أعيد قراءة أعمال الشاعر أجدني أتسلّق السقالة من جديد، فهنالك دائما معنى آخر في القمّة يكون في انتظاري.