علي حسين
ظل شيخ علماء النفس "فرويد" مصراً إلى آخر يوم في حياته على تقسيم حالتنا الحياتية إلى ثلاثة أقسام: ما قبل الوعي، ثم الوعي، ثم اللاوعي.. ولو تسنى له أن يعيش بيننا اليوم لتحدث عن حالة مابعد اللاوعي التي تصيب معظم "جهابذة" السياسة في بلاد الرافدين، وهم يتحدثون عن ملفات مثل النزاهة والفشل الأمني وتبديد الثروات وإقصاء الكفاءات. لعل أسوأ فعل يمكن أن يقوم به المسؤول هو ممارسة إنكار الواقع وعدم الاعتراف بالحقيقة..
حالة "الإنكار" التي يمارسها معظم ساستنا ومسؤولونا "الأفاضل"، هي ظاهرة ليست وليدة المرحلة الراهنة ولكنها والحمد لله ترسخت منذ عقود.. حتى وجدنا مسؤولاً مهمته متابعة ملفات الفساد يخرج علينا بكل صلافة ليقول "ماكو"، "لا فساد حقيقياً في العراق بل أشكال بسيطة من الرشوة في الدوائر الخدمية".
من هو الحرامي ومن هو النزيه؟ سؤال يحيرني كلما طالعت تصريحات لكبار المسؤولين تتحدث عن محاربة الفساد الإداري والمالي وتدعو لاتخاذ إجراءات حاسمة تحد من انتشاره، والمعركة مع الفساد لم تبدأ اليوم ولن تنتهي اليوم أيضاً، فما دام هناك مال سائب ستجد اللصوص يحومون حوله، بل يذهب البعض إلى إصدار فتاوى تبيح سرقة المال العام باعتبار أن القائمين عليه لا تهمهم مصلحة الناس، فشاهدنا ولأول مرة مستشفيات تُسرق ومدارس ومؤسسات حكومية تُنهب.
المواطن يتساءل لماذا أنتجت دولتنا وزراء فاسدين؟، لماذا أصبحت النزاهة حالة استثنائية أصحابها شواذ ومروجوها، إن وجدوا، فإنهم لا يعدون سوى حالات استثنائية؟.
ممارسة السرقة أصبحت أمراً طبيعياً ما دام المسؤول لا يحاسب وأقصى ما يتعرض له الإقالة مع حفظ حقوقه التقاعدية، وزراء ومسؤولون سرقوا من مال البلد أكثر من ميزانيات دول الجوار مجتمعة وغادروا من غير أن يُقتص منهم، وأكل الفاسدون من أموال الناس ما لم تأكله شعوب أفريقيا مجتمعة، لأول مرة في تاريخ النظم السياسية نجد ساسة يغادرون البلد حال فشلهم في الحصول على منصب جديد، فما الذي يبقيهم وأموالهم وقصورهم ومشاريعهم في الخارج؟!. كانت مشكلة بعض مدعي السياسة، العثور على سكن مناسب وإذا بهم اليوم بعد دخول الحكومة والبرلمان يملكون القصور والشقق في لبنان ودبي ولندن.
تخيلوا لو أن مسؤولاً عراقياً اتهم بالفساد وسرقة المال العام، ماذا كان سيفعل؟ حتماً سيصف متهميه "بالجوكرية" وبأنهم يريدون تسليم العراق إلى الإمبريالية، وأن هناك مخططاً تقوده الصهيونية ومعها القوى المدنية لتشويه سمعته، ولصرخ بصوتٍ عالٍ أنه باقٍ في منصبه إرضاءً للجماهير التي لا تنام، إلا وهي تضع صورته تحت الوسادة. هذه هي الحالة العراقية التي سيعجز عن إيجاد تفسير لها حتى "المرحوم" فرويد نفسه.