لطفية الدليمي
عند الساعة الخامسة أستيقظ كعادتي بعد نوم شحيح، الروح تمطر أسى إزاء شراسة عالمنا الفظ وقسوة بعض البشر وافتقاد العدالة وشيوع التفاهة وخيبات الأمل بأحوال البلاد، تباغتني اليقظة بنِعَم الجمال: فجرٌ شفيفٌ وقمر أبيض وهديل حمامة شجيّ، وقصائد أنّا أخماتوفا أمامي تصدح بأحزانها.
تتحدث أخماتوفا عن الموسيقى كجوهرة ذات سطوح صقيلة:
ثمّةَ شيءٌ سماويٌّ يتَّقِدُ فيها
كم أحبُّ أن أراقب
أسطُحَ هذه الجوهرةِ العجيبة إذ تنمو
إنها تتحدث معي في نوبات القَدَر الكثيرة
حين يخشى الآخرون الدنوَّ منها
تفصح أخماتوفا عن أنّ الموسيقى ملاذها في مصائبها وبلايا القدر، ويبدو أنّ الرسام ناثان ألتمان إلتقط تلك الثيمة في لوحته الشهيرة التي رسمها لها ؛ فأظهر الحزن وكآبة الخسران وأحاطها بألوان قاتمة كأنها موسيقى بروكوفييف، ولأنّ ألتمان تمرد مثلها على الواقعية الاشتراكية والفن الرسمي فقد نجح في تجسيد كامل كآبته وحزنه في حزنها ؛ فرسمها في ثوبها الأزرق السابغ وشالها الأصفر بتقنية لونية بارعة وأسلوب ممتزج بتكعيبية مخففة أبرز عبرها الزوايا الحادة تعبيراً عن فظاظة العالم وتجبّر السلطة،بينما كان ضوء الشعر يفيض من أعماقها كموسيقى شجية.
إفتقدت أخماتوفا الموسيقى في السجن عندما حظروا تداول قصائدها وطوردت بتهمة مناهضة الثورة؛ غير أنها لم تستسلم فكتبت عبارات تفصح عن محنة الروح الحرة:
" كل شيء مهيأ للموت، والملاذ الأفضل للمقاومة على هذه الأرض هو الحزن، وما سيمكث أخيراً هي الكلمة الحرّة "
ومثل كلّ الكاتبات والكتّاب الحزانى المهمومين بمعضلات الوجود كانت تفيض شعراً عندما تداهمها عاصفة الأحزان وتهددها أغلال الواقع المرّ فتقوم بصهر الحزن وتدويره ليتبلور قصيدة – جوهرة.
أتخيلها الساعة تسمعني وأنا أهمس لكل الحزانى: عندما تداهمكم الأحزان ووحشة الوجود وحقيقة العدم وقسوة العالم الفظ، عليكم أن تتوقفوا برهة وتفكروا بمن تحبون وبما تحبون أن تفعلوا ؛ فهذا هو ما يضفي عزاءً أكيدا على لحظات الأسى، تتحايلون على جراحكم وتسمّون أوهامكم بأسماء مخادعة: تارة هي المعنى أو القيمة وأخرى هي الجدوى المؤقتة للوجود ولكنها في الحق نزف أفكاركم وخلاصة أحزانكم، وعندما تحاصركم البلادة العمومية والفن التافه والموسيقى الرخيصة التي تضج حولكم لكم أن تلوذوا ببلّور الموسيقى النقية وتزجروا الذكريات الجارحة والآمال الخلّب والضجيج العام، وتستدعوا كلمة مضيئة ممن يحبونكم وتحبون، عندها فقط يمكن لأحزانكم أن تتشظى وتخمد، ثم تخطفكم نغمة من قوس كمان أو مشهد تناغم بين زهور تلقحها نحلة هائمة وبين طيف قمر يتحدى النهار، ستنهضون وتجمعون حصيلة أحزانكم وتدعونها تنصهر في أتون فكرة مشتعلة لتغدو نصاً مضيئاً أو قصيدة أو مقطعاً موسيقياً، وفي عملية التدوير الإبداعية لأحزانكم ستفلتون من أغلال الضجيج البشري المرّوع، ذلك الضجيج الذي يحاولون به إدعاء فرحٍ زائف فيقعون في الضلال وخداع النفس.
تتراءى لي أخماتوفا الآن تنصت إلى موسيقى (طقوس الربيع) لسترافنسكي الذي كان اسمه يجاور اسمها في القائمة السوداء لجرأة موسيقاه وامتناعه عن تأليف الموسيقى البطولية المكرسة للثورة، تنصت وتتأسى لهربه مع بروكوفييف ورحمانينوف إلى أوروبا مع عدد من المبدعيين المهدّدين بالسجن والموت ؛ لكنها لا تلومه قط، هي تعلم أن مؤلفاته الصاخبة الغاضبة ورفضه التقاليد الموسيقية كانا إعلاناً جريئاً عن القبح وفقدان العدالة، وكما تحدثت هي في قصيدتها (قداس جنائزي) عن السلطة والموت و عن سجنها سبعة عشر شهراً في سجن النساء بوشاية أحدهم،كتبت القصيدة كإنجاز وعدٍ لسجينةٍ يائسةٍ سألَـتْها :
- هل يسعُكِ أن تكتبي عن عذاباتنا في هذا السجن؟
فأجابتها: أجل سأفعل. وفعلت.