د. فالح الحمـراني
بعد فرارهم من كابول، سيحاول الصقور من الحرب والسياسة الأمريكية الآن تحميل حركة طالبان، و الدول في المنطقة، التي سيتعين عليها التعامل مع عواقب هذه الحملة المسلحة المطولة، مسؤولية فشل الوجود العسكري الأمريكي وحلفائه في أفغانستان لمدة 20 عامًا.
إن الولايات المتحدة تتحول إلى انتهاج سياسة أنانية سافرة مكرسة حصريا لمصالحها. قبل عشرين عامًا، كان المحافظون الجدد والليبراليون الجدد في واشنطن يعتقدون حقًا أن من مصلحة أمريكا إقامة الديمقراطية في جميع أنحاء العالم، وفرض قواعد عالمية. ومن هنا جاءت الخطط المجنونة لبناء «دولة ديمقراطية حديثة» في أفغانستان، والتي أنكرها جوزيف بايدن الآن. لقد تبددت الأحلام، وبقيت البراغماتية المجردة، ولتذهب برأيهم كل القواعد إلى الجحيم. إن عصر «ما بعد القطبية الثنائية»، والذي، على الرغم من أنه لم يكن قائما كما هو واضح الآن، كان فترة تفكيك وليس فترة بناء، إلا أنه احتوى على خمول مؤسسي معين في النصف الثاني من القرن العشرين، وهو على الأرجح أكثر الفترات تنظيماً في التاريخ السياسي العالمي. وبشكل عام، يعتبر انتقال الولايات المتحدة إلى السياسة الأنانية تحولًا في الاتجاه الإيجابي. على الاقل لأنه اعلانا صريحا. ان الوهم حول «نشر الديموقراطية»، لا يؤدي إلا إلى تفاقم الفوضى. لكن يجب على من يواجه أمريكا في الساحة الدولية الا ينسى أن الولايات المتحدة ستسعى إلى تحقيق أهدافها بأي وسيلة ممكنة، الآن الآهداف المحلية في المقام الأول. ومن الضروري ان يستعد الجميع لذلك.
كان غزو أفغانستان عام 2001 بمثابة عمل انتقامي للهجمات التي وقعت في نيويورك وواشنطن. ومع ذلك كانت عملية تاريخية، مما يدل على استعداد الولايات المتحدة لتغيير العالم بالقوة في الاتجاه «الصحيح». لم ببدأ بوش الابن أو حتى بيل كلينتون هذا التطور، بل اطلقه الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب الذي أعلن النصر في الحرب الباردة -. وكان أول مظهر من مظاهر «النظام العالمي الجديد» هو عملية عاصفة الصحراء في أوائل عام 1991. وكان الأتحاد السوفياتي قائما، وانتهى التدخل بطرد صدام حسين من الكويت، ولكن لم يسفر عن تغيير النظام في العراق كما طالب بعض السياسيين والعسكريين الأمريكيين. ومع اختفاء الاتحاد السوفياتي، لم تكن هناك قيود خارجية، ودخلت الولايات المتحدة ما يسمى بـ « بمرحلة أحادية القطب». كان يعني القدرة على فعل ما يرونه مناسبًا على المسرح العالمي. وبالمعنى السياسي العسكري، كان هذا يعني عدم وجود منافسين لها بنفس المستوى. سلسلة من العمليات التجريبية بدرجات متفاوتة من النجاح، مثل العمليات العسكرية في هايتي والصومال والبوسنة، وبلغت ذروتها في حرب جوية ضد يوغوسلافيا. وكانت نتيجتها التفكك النهائي لدولة غير مرغوب فيها للولايات المتحدة، وسرعان ما تم الإطاحة بنظام غير مقبول من قبل الغرب هناك. ولم يكن هناك غزو للأرض،، وتمت صياغة المسار الأمريكي لحقبة ما بعد الحرب الباردةفي التسعينيات على وجه التحديد، وكان مؤلفه الرئيسي هو بيل كلينتون، المعروف في شبابه بأنه من دعاة السلام ومتهرب من الخدمة العسكرية.
أعطت هجمات 11 سبتمبر 2001 تفويضًا مطلقًا للتطبيق غير المشروط لـ «النهج التحويلي» (الذي وصفته كوندوليزا رايس بأنه أساس السياسة الأمريكية) على نطاق عالمي. لقد أصبح خلق عالم ديمقراطي آمن للأمريكيين في الواقع الهدف الرئيسي - فكلما زاد عدد الديمقراطيات، انخفض الخطر على الولايات المتحدة. وتشكلت مجموعة الأدوات العسكرية السياسية (من التدخل المسلح إلى الترويج للأشكال المعتمدة للبنية الاجتماعية والسياسية عن طريق «الثورات الملونة») في النصف الأول من العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. بحلول منتصف ذلك العقد، كانت هناك علامات على أن مثل هذه الدورة لها تكاليف على الأقل ولا تؤدي بالضرورة إلى النتيجة المرجوة. الحملة المطولة في أفغانستان، والتطور الفوضوي للأحداث في العراق، وتنامي «المقاومة المادية» في فضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي، والخلل الوظيفي القاتل لفلسطين بعد الانتخابات الديمقراطية المفروضة عليها... كل هذا كان يجب أن يؤدي إلى إدراك ما كان يلمح إليه بايدن في خطابه عن أفغانستان: الحاجة إلى مسار تغيير جذري. ومع ذلك، لم يستطع بوش الابن في الولاية الثانية ولا أوباما ولا حتى ترامب المتمرد القيام بذلك. بدأ التصحيح العملي حتى في عهد بوش، وحاول أوباما، دون تغيير النهج، إطلاق ساسة الخروج السلس من الالتزامات، وغير ترامب فجأة خطابه وأعلن رفضه للسياسة السابقة، لكن لم يكن لديه الوقت لتنفيذ ما كان مخططًا له بشكل كامل.
لكن على ما يبدو تحركت الغطرسة والعجرفة. وأصبحت فكرة ان الولايات المتحدة هي القوة المهيمنة على العالم بلا منازع شائعة جدًا في المؤسسة الأمريكية بعد الحرب الباردة، وأثارالانحراف عنها مقاومة شرسة. حتى على الرغم من حقيقة أن الكثيرين فهموا بشكل موضوعي استحالة المضي بنفس الروح. وبعبارة أخرى، فإن السعي في التمويه على التقلصالحقيقي للطموحات، والرغبة في محاكاة الحفاظ عليها، ومبدئية الأسس الأيديولوجية، لم تسمح بتخفيف العبء والتحكم بادارته، ونتيجة لذلك، حدث كل شيء الإنهيار أمام العالم المذهول. وتحت وابل من الاتهامات بخيانةالحلفاء والمثل.
إن الهيمنة الأمريكية في عالم 1991-2021. كانت مثيرة للإعجاب وربما لم يسبق له مثيل من حيث الحجم لدرجة أن الخروج المرن والتدريجي منه لم يكن ممكنًا. وكان من المقرر أن يتم تسجيل هذا الحدث بشيء لا يقل أهمية تاريخية ورمزية عن صور سقوط جدار برلين أو تحطم الطائرات في البرجين التوأمين. وستدرج لقطات الهروب من مطار كابول وكل ما رافقها في السجلات على أنها تجسيد لنهاية حقبة. وأعلن بايدن في خطابه حول هذا الموضوع أن أمريكا ستتعامل مع نفسها ومشاكلها وتضمن أمنها وتحارب خصومها الاستراتيجيين (الصين وروسيا). لكن العالم لن يتغير بعد الآن - إنه ما هو عليه، لقد أتت الصحوة من نشوة نهاية القرن العشرين. والانتكاسات ممكنة، لكن لا عودة إلى الوضع الأمريكي السابق.
إن شعار بايدن «أمريكا تعود»، والذي كرره مرات عديدة خلال الحملة الانتخابية والرئاسة، في الواقع كما نرى لا يعني دخولًا جديدًا إلى الساحة العالمية، بل «العودة إلى الوطن».وبهذا المعنى، فإن بايدن هو الوريث المباشر لخط ترامب، بغض النظر عن كيفية إطلاقه. وهو نفس الشيء فيما يتعلق بـ «المواجهة بين القوى العظمى» باعتبارها المحتوى الرئيسي للسياسة العالمية والأمريكية. هذه الفرضية واردة في الوثائق العقائدية المعتمدة في عهد ترامب، لكن في عهد بايدن لم تتم مراجعتها. بالكلمات، تولي الإدارة الحالية اهتمامًا متزايدًا للمكون الأيديولوجي - المواجهة بين الديمقراطية والاستبداد. لكن تبسيط تشكيل الكتل وهيكلة السياسة العالمية أمر فعال إلى حد ما. بعد الإحراج الأفغاني، يبدو هذا الجزء من «عقيدة بايدن» شاحبًا.
* استفادت المادة من الدراسات المنشورة في عدد ايلول لمجلة « روسيا في السياسية العالمية» التي جاءت بعنوان» وداعا للهيمنة».