حيدر المحسن
كأنّ الحظّ أدار ظهره للشاعر، فهو من أول صفحة في ديوانه الأول، وحتى الأخير، لم يكفّ عن ترديد عبارات تخصّ اليأس، أضاف إليها من روح اللّغة المحكيّة شيئا صارت به واقعيّة أكثر، وهذه إرادة حسين عبد اللطيف في توكيد شرح بؤس بلده، وقد أدار إله الحظّ له وجهه:
“الجهود، كلها، باطلة، تقريبا | وابنة الندم”، “وإن ما عرفته للتوّ هو عين ما عرفته أمس أو ما سأعرفه غدا”، “لا يسعف الوقت ودائما لا تسنح الفرص”، “إن أساي سيطول كحبل لا نهاية له”، “ليد الانتظار أسلمتنا يد الانتظار” ... وإلى غير ذلك من الشّواهد.
تكدّس حزن الشّاعر وتضاعف مرّاتٍ يأسُه في مجموعة شعريّة كتبها عن رحيل أخصّ أصدقائه، الفنان أحمد الجاسم، وسمّى الديوان باسمه: “أمير من أور”. ويرتفع القنوط لدى القارئ إلى أعلى مكان في سماء الشّعر عندما يشاهد هذه اللّوحة:
“القمر -عين الليل-: حياة جامدة مقلة بيضاء من الجصّ أو الجير المنطفئ لمسيح بلا بؤبؤ ولا أهداب”.
القصيدة مرسومة، والصفحة عبارة عن قماشة كانفاس، والكلمات خطوط وألوان، كما أن الشاعر لا يقدم لنا تسجيلا تصويريا للواقع، وإنما يصف تجربة فنية كان حاضرا عند أدائها. إنه يتأمل اللوحة بعناية، ونسمع صوته قائلا: “شاكلة لوحتك”، أي أن ما رسمته يوازي حزني يا أيها الغائب، قد ابيضّت عين المسيح من فرط حزنها، ومن شدّة اليأس. التّفصيل في القصيدة، وخيار التّشبيه بين الجصّ والجير المنطفئ يدلّان على رّاحة الشّاعر واسترخائه وهو يكتب الشّعر، وهذا مفصل مهمّ في هيكل القصيدة: فهو يقول كلاما عاديا للغاية، ويمتلك في نفس الوقت السرّ الذي يصير به التّراب تبرا، ويتأكد لدينا هذا الكشف في أكثر من مكان في هذه المجموعة، وإلا كيف تصير أسماء الأعلام شعرا قارّا:
“وداعا باريس، روما، فينيسيا، الفاتيكان النوتردام، مكتبة شكسبير، اللوكسمبورغ المولان روج المونمارت وداعا ميرو بيكاسو براك ليجيه... اليزابيت وحيدة، هناك كاظم جهاد، وثاب، فاضل...”
اليزابيت هي صديقة الشاعر الألمانية الجنسية، ومن ثمّ زوجته، وذكرها هنا يختصر صفحات من سيرة الراحل، فالأماكن المذكورة وشكسبير وبيكاسو وكاظم جهاد هم عائلة الفنان الأمير، كذلك:
“جمال، نعيم، عقيل علي، حيدر، محمد، رملة، محسن اطيمش – الرسالة لم تصل –”
يكتشف القارئ وظيفة أخرى للشعر: التواصل مع الأموات، محسن اطيمش ناقد وأكاديميّ وأب روحيّ لأدباء وفنانين جاؤوا من مدينته الناصرية قاصدين العاصمة، ونفهم من النصّ أنه أرسل من دار الآخرة رسالة إلى الأمير بالكفّ عن الكحول الذي يأكل كبده، كذلك: “الخفاجي، الباقري، الزيدي، العاصي، الحلي أمير ملتمون كأصابع اليد، محتشدون كالظلال عند منعطف الفرات يغنون لأمير أور: (أحبابنا يا عين) عزاء يليق بأحد الخلّاقين حقا”.
ما يميّز قصائد الرّثاء في الشّعر العربي، وحتى الحديث منه، بعض المبالغات والخشونة العاطفية التي لا تستسيغها جميع الأذواق، وبلغت رقة النّغمة التي يعزف شاعرنا بها شجونه أن أسماء الأعلام صارت موجودات شعرية، الغائبون منهم والحاضرون على السواء. لا يوجد في القصيدة صور شعرية جريئة، ولا انزياح لغويّ، ولا تفكّرٌ وجوديّ أو صوفيّ أو ماديّ، هنالك أسلوب خاصّ في الرّثاء ونظرة خاصة، هنالك لغة عادية وإيقاع محموم يتصاعد بمهارة، وينسجم، ويندمج، ويتمازج... الإحساس الفائق بالكلمة جعل أسماء الأعلام تتحول إلى أشياء أو صفات أو أفعال: هنالك طاقة تتدفّق تحوّل الفقدان إلى لقاء، والموت إلى حياة؛ إنه الإحساس بالوجود البشريّ الموزّع بين الوجود والفناء بألمع معانيه...