د. نادية هناوي
أفادت ملحمة جلجامش من الحكاية الخرافية البدائية لاسيما أفكارها حول الآلهة والطوطم فصنعت منها نتاجا شعريا بطوليا
ليبدأ منذ ذلك التاريخ الطور البطولي ويسود كبديل ذكوري عن طور سبقه انثوي هو طور المعرفة الذي أنتجته القوة النسوية في إطار روحي مقدس. وإذا كانت ملحمة جلجامش قد جسّدت ثقافة القوة فإنها بذلك قضت على آخر صورة يوتوبية للكينونة المؤنثة في توكيد دورها الأمومي وما ساد فيه من الحكمة والمعرفة.
فكان هذا الامحاء للطور الانثوي المعرفي وذيوع البطولة الذكورية وانتشارها بين حضارات العالم القديم تعبيرا جدليا عن الخوف من الدور المركزي الذي أدته المرأة وهي تنقل الانسان من فرد في قطيع إلى أن يكون مجموعا في فرد ليعرف كيف يستمر ويخلد. وهذا الاستبدال لأدوار المعرفة بأدوار القوة هو لب ما جاءت من أجله ملحمة جلجامش وأرادت تمثيله.
وصحيح أن كثيرا من التأويلات والشروح التي وُضعت حول الملحمة قد تعلقت بفكرة ميتافيزيقيا الخلود وأن الجسد إذا كان سيفنى، فإن الروح ستظل باقية وهكذا يتعالى البعد الروحي وتتوكد الدونية الجسدية.. لكن هذا التحصيل المعرفي المترشح من التأويل أعلاه والذي اعتدنا تداوله والتسليم به، إنما هو جزء من الحقيقة وليس كلها، كونه يزحزح الفعل الأنثوي الأصلي المتمثل في الاهتداء للمعرفة ليحل محله الفعل البطولي المذكر متسيدا ومركزا وممثلا للخير. ولهذا السبب بدت المرأة في الملحمة محملة بصفات الشر، كأنها هي وحدها مصدر الإغواء وفيها تكمن كل المكائد.
ولقد تولد عن هذا الاعتقاد بعض الخلط في فهم أدوار المذكرة والمؤنثة وطبيعة وظائفها في العصر أو العصور التي سبقت الملحمة. ولعلنا لا نجانب الصواب إذا قلنا إن الملحمة كتبت على وفق رؤية ذكورية مركزية بدليل أنها لم تبدأ إلا بوصف جلجامش ولم تمر على الحقبة التي سبقته حين كانت الآلهة في زمن البراءة تشبه الانسان مما كانت ملحمة اتراحاسيس قد روته وهي تحكي قصة الطوفان، وكيف أن الأم الكبرى أطلقت على أول بشر خلقته اسم (للو) المركب من مقطعين سومريين ويعني الرجل الأول.
وفي الملحمة نجد عالم الذكور على شكل طبقات فهناك الذكور الآلهة شمش اتونبشتم والذكور أنصاف الآلهة جلجامش والذكور البشر انكيدو بينما كانت الإناث في الملحمة كلهن آلهات وإذا كانت الإلوهية الذكورية متفرقة؛ فإن الإلوهية الأنثوية ظلت مجتمعة.
والأم الكبرى هي التي قدمت لعشتار صنيعا مهما إذ دلّتها على خير البشرية وأعطتها صفة التقديس على مرّ التاريخ، وعد الباحث فراس السواح عشتار هي نفسها الأم الكبرى من ناحية حكمتها الصاعدة من أعماق اللاشعور معتبرا كل الديانات بدأت عشتارية وأن كل سر من أسرار الطبيعة وحكمة من حكمها وخبيئة من خبايا النفس وعلاقة من علائق القوى الخفية قد أبانتها عشتار. ومهما يكن من أمر الأم الكبرى وعشتار، فإن إغفال ملحمة جلجامش للدور الحكمي للمؤنث ما هو إلا فعل انقلابي هدفه التغييب رغبة في عدم الإقرار بالجانب الايجابي والحسن للمرأة لاسيما إذا علمنا أن ما فُقد من الرُقم الطينية أو ما لحقه التخريم والضياع كان في المواضع التي لها صلة بإثبات الأسبقية الامومية أو توكيد الفاعلية الأنثوية..
ومن المؤكد أن اختراع الكتابة كان حاجة إنسانية أسهمت في حفظ جانب من تاريخ وادي الرافدين لكنها كما يبدو حفظت الجانب البطولي الذكوري وهمشت الجانب المعرفي الحكمي الأنثوي الذي نقلته شفاهيا الحكايات والأساطير والتي كان مؤلفها على ما يبدو مؤنثا.
ومما لا شك فيه أن الأنوثة التي ساعدت الذكورية على أن تعي وجودها هي نفسها التي ألهمتها فعل الكتابة التي سلبت الأمومية مركزيتها لتحل محلها الأبوية.
وإذا كانت الأنثوية قد مارست فعل الاهتداء من خلال سعيها إلى منح البشر الحكمة والمعرفة فإن الذكورة انقلبت فمارست فعل الإغراء والإغواء سالبة السلطة من بين يدي المرأة بعد أن أخذت منها المعرفة والفطنة فعرفت سر القوة، فكان أن مثل هذه القوة جلجامش بينما مثل انكيدو المعرفة. وما رؤيا انكيدو لطير الصاعقة زو والتقائه بايرش كيكال ملك العالم الأسفل وبعلة صيري كاتبة العالم السفلي ثم اخباره جلجامش بأمر هذه الرؤيا سوى إنذار لهذا الاخير لعله يرعوي:
والإلهة بيليةـ صيري كاتبة العالم السفلي منحنية أمامها
ممسكة بلوح وهو تتلو أمامها
رفعت رأسها ورأتني أنا فقالت:
من الذي احضر هذا الرجل إلى هنا؟
من الذي جلب هذا الفتى إلى هنا؟
وهكذا صار جلجامش يندب ويبكي ويحزن كعقاب قاس كان لابد له أن يعايشه وهو يهيم على وجهه خائفا من المصير الذي ينتظره، فقصد اوتونبشتم وخاف من الأسود ودخل الممر المظلم الذي مر فيه لساعتين ثم أربع إلى ان صارت اثنتا عشرة ساعة مضاعفة ورأى الشمس والأشجار والأعناب ودخل في صراع مع البشر العقارب في جبل ماشو والتقى بالرجل العقرب وزوجته وابتهل إلى عظيمة الإلهات لتحميه وتحفظه.. وبالتقائه بسيدوري إلهة الخمر وصاحبة الحانة الساكنة عند ساحل البحر يكون الدور الأنثوي قد اعيدت له بعض تاريخته في التوجيه والهداية. وهكذا أغلقت سيدوري الباب بوجهه وعندها تذكر بطولاته وانه قتل خمبابا وثور السماء والأسود حتى إذا انتهى سألته متهكمة من هذه البطولة قائلة له : ها قد ذبلت وجنتاك وملك الحزن قلبك وتبدلت هيئتك :
فلماذا وجنتاك غائرتان ووجهك منكمش؟
وفكرك مثقل وملامحك منهكة؟
ولماذا يكمن الأسى في داخلك؟
..
ولماذا اسود وجهك من البرد والحر؟
فرد جلجامش مستسلما هذه المرة ومرعويا وكأنه قد تلقف الدرس وفهمه:
ـ أصبحت أخاف الموت وأجوب البرية
وقصة صديقي مخيمة عليَّ
فكيف استطيع أن اسكت كيف استطيع ان اهدأ ؟
وهنا نتساءل هل السارد الذي يخاطِب جلجامش بأفعال الأمر هو أعلم من الآلهة المذكرة وأقدم منها ؟ إذا كان الجواب بالإيجاب فعندها سيكون المقصود الأم الكبرى، وتسويغ هذه التصور هو أن كاتب الملحمة لم يرد الكشف عن الصوت المؤنث لذلك جعله متواريا. وكان الأستاذ طه باقر قد قدم لقصة الطوفان بالعنوان الآتي ( قصة الطوفان كما يرويها اتو ـ نبشتم الخالد لجلجامش) لكنه لم يقل لنا من الذي كان يروى قصص الملحمة الأخرى..!! ولعل في إخفاء هوية السارد أو الراوي إكبارا لصورة جلجامش وتوكيدا لدوره البطولي أما إذا تم الكشف عن هويته فإن ذلك سيضعضع مكانة جلجامش البطولية. ولهذا كله تمت كتابة ملحمة جلجامش وتدوينها على وفق رؤية ذكورية ساد فيها الاعتقاد بسلطة الآلهة الذكور وتسيدها على الآلهة الإناث ومن ثم تغلبت القوة على المعرفة: ( البطل سليل أوروك الثور النطاح/ جلجامش المكتمل القوة)
ولقد أورد فراس السواح في ترجمته للملحمة نصا فيه اكتشف من نسخة نينوى وعزى تحريره إلى الكاهن سن ليكي وهو غير موجود في ترجمة الأستاذ طه باقر لأنه لم يكن قد اكتشف آنذاك بعد. .والنص فيه مزيد من تأكيد قوة جلجامش :
عن جلجامش الذي مضى عبر جميع الصعاب
الذي فاق كل الملوك ذائع الصيت متين البنيان
ابن اوروك الثور النطوح
الذي يمضي في المقدمة كما يليق القائد
ويسير أيضا في المؤخرة كرجل مؤتمن
كصخرة جبارة يصد عن رجاله
وكوجه الطوفان الصاخب يهدم الاسوار الصماء
نسل لو جال بندا جلجامش الكامل القوة
ابن البقرة ننسون
جلجامش الضافي الروع
فاتح ممرات الجبال
ناقب الآثار في سفوح الجبال
عبر المحيط المترامي إلى حيث تشرق الشمس
وارتاد أصقاع الأرض بحثا عن الحياة
شق طريقه بعزم يديه إلى اوتنابشيتم البعيد
الذي استرد إلى الحياة ما خربه الطوفان
..يعمرون الأرض
هل مثله من ملك في أي مكان ؟
هل يحق لغيره ان يقول أنا الملك الحق؟
فبالاسم قد دعي جلجامش منذ يوم مولده
ويبدو الأسلوب هنا أكثر إفصاحا وتنظيما بما يدلل على أنه كُتب في مرحلة لاحقة للنص الأصلي، وقد علق السواح في هامش هذا النص بما يأتي( وقد استنتج بعض الباحثين اعتمادا على السطر الأخير من المقدمة الحثية أن جلجامش ذو أصل أجنبي وأنه قد استولى على عرش اوروك بالقوة وهذا رأي ضعيف) ولا غرو أن النص يقر بأن جلجامش يختلف عن سائر الناس وصفاته كلها شريرة لكنه يظل ابن ارورو وليس أجنبيا..
وعموما فإن هذه الأسطر تعطي صورة بانورامية واسعة زمانيا ومتسعة مكانيا وهي صورة لا يستطيع أن يقدمها إلا سارد عليم عرف كل شيء هو في أغلب الظن ارورو الإلهة الأم التي صنعت الإلهة المذكرة والمؤنثة، وحددت لها مصائرها، لكن كاتب الملحمة قام بتثبيت رؤيتها بضمير الغائب وهذا ما جعلها مجهولة..
وعلى الرغم من ان لارورو سلطة مطلقة في المجتمع الأول البدائي حين كان تفسير الموت والحياة مرهونا بالجنس إلا إن تلك السلطة المطلقة تخلخلت في زمن جلجامش مع تراجع الديانة القمرية الأنثوية أمام الديانة الشمسية التي كانت تناصر القوة وهكذا غدت للرجل امتيازات على المرأة.
فكان انكيدو نتاج السلطة المطلقة الامومية في حين كان جلجامش نتاج السلطة الأبوية المستلِبة ولقد عملت الالوهة القمرية الأنثوية على تزويد انكيدو بالبراءة والمعرفة كي تصوغ منه نصيرا لها في صراعها ضد السلطة الشمسية الذكرية الممثل لها بطريريكيا بالملك جلجامش ومؤسساته.
وهذا التلاقي بين تسميتي ارورو وأوروك إنما يعني أن المدينة كانت نتاج تلك السلطة المؤنثة التي كانت السلطة الذكورية قد استحوذت عليها فيما بعد ولهذا جلبت ارورو انكيدو إلى هذه المدينة بالتعاون مع بناتها الإلهات لكي يعيد لها سلطتها، ولعل هذا التفسير يتأكد إذا علمنا أن السلطة الإلوهية الذكورية ما كانت قد نفت الآلهة المؤنثة من حياتها ولم تقضِ عليها لأنها كانت محتاجة إليها فسخّرتها لخدمتها وجعلتها طوع أمرها، تنفِّذ من خلالها إرادتها وتثبت قوتها جاعلة منها توابع مأمورات لجلجامش..لكن ربات ارورو كاشخارا أو شمخة وعشتار وسيدوري وغيرهن قد عملن على الإفادة من تلك الحاجة إليهن كي ينفذن رغبة الأم فتآزرن وجئن بانكيدو مبرهنات لجلجامش تحديدا وللسلطة الذكورية عموما أن المعرفة والقوة لا تلتقيان.