ستار كاووش
في طريقي الى مكتبة المدينة، لأجل إستعارة بعض كتب القصص القصيرة، لَفَتَتْ إنتباهي واجهة متجر واسع لبيع الـطاولات والكراسي والكثير من الأثاث المنزلية. ما جعلني أتوقف هناك، ليس شكل المحل الذي لم أنتبه اليه سابقاً ولا الكراسي الجميلة التي أخذت مكانها وسطه، بل ست طاولات دائرية صغيرة بانَ قسم منها من خلال الواجهة.
دخلت المحل وإقتربتُ من الطاولات وتحسستُ سطوحها بنعومة وتطلعت لقياساتها المتشابهة، قبل أن ينتبه اليَّ صاحب المحل ويقترب مني متسائلاً (هل أعجبتك الطاولات ياسيدي؟) ثم أردَفَ (هل تريدها مجتمعة؟ سأخفض لك الثمن بشكل جيد لأنها مركونة هنا منذ زمن ولم يقترب منها أحد، ولا أفهم لِمَ لا يحب الناس اليوم هذه الحجوم الصغيرة من طاولات الصالون؟!) بعد لحظات أخبرني عن ثمنها بطريقة تقترب من الهمس، فوافقتُ دون تردد على شرائها مجتمعة، ونسيت المكتبة وكتب القصص. لم تمرَّ دقائق حتى وجدتُ نفسي أجلس مع صاحب المتجر في شاحنته الصغيرة لأجل توصيل الطاولات الى المرسم الذي لا يبعد سوى بضع دقائق. شكرته على تخفيض الثمن، فأجابني ( أنا من يشكرك لأنك أَخليتَ لي مساحة جيدة من المتجر)، وقبيل أن نصل لاحظتُ الرجل يسترق النظر اليَّ بطرف عينه، ثم سألني متردداً (هل لديك مطعماً أو مقهى صغيرة تحتاج فيها هذه الطاولات اللطيفة؟) عندها ضحكتُ بصوت عالٍ وأنا أنظر اليه قائلاً ( مطعم؟! لا بالتأكيد، فأنا أحتاج هذه الطولات لشيء مختلف تماماً، وربما من الأفضل أن لا أخبرك بذلك، لأنك ربما ستغير رأيك بالبيعة كلها) فضحكنا معاً ونحن على مشارف المرسم.
في داخل المرسم، تأملتُ الطاولات على مهل، ياللقياس المناسب وياللخشب الجميل وياللسطوح المدهشة! في الحقيقة لم أكن بحاجة لطاولات كي استعملها كما يستعملها باقي الناس، بل كنت بحاجة الى سطوح دائرية بقطر خمسين سنتمتراً لأرسم مجموعة من اللوحات الدائرية التي جهزتُ دراساتها الأولية وتكويناتها النهائية على الورق، ولم أستطع أن أحصل على هذه النوعية من الخشب المقطوع بعناية فائقة على شكل دوائر، سوى من خلال هذه الطاولات. ألم يقولوا أن الفن فيه الكثير من الجنون والغرابة والتفاصيل غير المتوقعة؟ وفي النهاية كل شيء صالح للرسم إذا نظرنا اليه من زاوية خاصة ومناسبة. والإبداع هو أن تمنح الأشياء والتفاصيل التقليدية شكلاً جديداً وحياة أخرى غير متوقعة. ولا يمكنك الحصول على نتائج جديدة سوى بتغيير الوسائط التي تتعامل معها، وبذلك تستطيع أن تُحَوِّلَ الشجرة الى غابة، وتجعل من الريشة عصفور حي يرزق كما يقول الشاعر أوكافيو باث.
قمتُ بإزالة سيقان الطاولات وبعض التفاصيل الصغيرة المتعلقة بها، فلم يبقَ لديَّ سوى ست قطع دائرية من خشب البلوط المدهش، فتذكرت رسامي القرن السابع عشر الذين كانوا يفضلون هذا النوع من الخشب لرسم لوحاتهم، بسبب نوعيته المذهلة ومتانته وأليافه التي تقاوم الزمن. أزلتُ الورنيش من القطع ودعكتها جيداً، فإنتشرت رائحة خشب البلوط في المرسم، والتي إستعدتُ معها قاطعي أخشاب الغابات بمناشيرهم الكبيرة شمال هولندا. وعندما حَلَّ المساء، كنتُ قد إنتهيت من معالجة القطع ببعض المواد، وطليتها بطبقة من (الجيسو) الذي يستعمل في تحضير كانفاس الرسم، فحصلتُ في النهاية على سطوح صافية تنتظر الرسم.
تستهويني غالباً اللوحات ذات الحجوم غير التقليدية، وأبحث دائماً عن هيئات وأشكال تبدو غير صالحة للرسم، وأحولها الى لوحات. لذا رسمتُ على الطاولات والكراسي والمراوح الحريرية وإخترتُ سطوحاً تبدو بعيدة كل البعد عن أشكال الفن المتعارف عليه، أشكال غائبة بفعل الزمن ومغيبة بفعل الظروف، وألبستها ثياباً جديدة، لتصبح أعمالاً فنية. هكذا أتأمل كل مكان أرتادهُ وكل زاوية أمرُّ بها، باحثاً عن أشكال تبدو عابرة ولا تلفت النظر، لكني أحملها معي كلقى ثمينة وأبدأ الرسم.
أتذكرُ حين أقمتُ معرضي بغاليري الإتحاد في أبو ظبي، كنت أتجول مع الصديق الشاعر والفنان صلاح حيثاني في شارع ألكترا، وفجأة ظهر أمامنا محل لبيع الموبليات، وقتها أشار صلاح الى إحدى الطاولات المعروضة ونحن مانزال في الشارع وقال (شكلها مناسب وسطحها جميل) لحظتها فهمتُ ما يقصده صديقي، فأشرتُ له بوجهي دليل الموافقة، فما كان منه سوى الدخول بسرعة الى المحل ودفع ثمنها، طالباً منهم توصيلها الى بيته، بعد أن أعطاهم العنوان. وصلت الطاولة في ذات المساء، وبدأت الرسم عليها في صباح اليوم التالي مباشرة، لتكون في النهاية عمل فني أسميته المرأة المستلقية.